لورين المحمد |
بين الحياة والموت على تحويلة حمص عام 2013، ثانية تفصلهما .. الثانية التي أبعدت طلقة القناص عن جميع الركاب، فلم تنل منّا إلا الرعب، ولكنّ هذا الرعب لم يكن شديد الوطأة على الجميع فالسيدة المتشحة بسوادٍ حزين والجالسة بقربي، بدت غير مكترثةٍ، أما على المقعدين المجاورين فلم يجلس سوى رجل سبعيني ملتصقٌ بالنافذة غير مكترث بشيء. ربما الأم وطفلها الجالسان أمامه هما الأكثر هلعاً. احتضنت الأم طفلها محاولة حمايته من أي طلقةٍ أخرى تسرقه منها.
ـ لم يعد الرصاص مرعباً .. هنالك ما هو أشد !.
فاجأني صوتها وأربكني بشدة الأسى الممزوج بالإصرار وشرارة عينيها تنضح غضباً وحرقة قلب.
ـ لم يعد يهمنا سوى الخلاص من الرصاص.
ـ حسب من وين الرصاص…
تشجعت وسألت بخجل:
– توفي او استشهد لكِ أحد؟!
– استشهد!! لا أعلم رصاص الغدر يصنف تحت أي مسمى قتيله.
من قساوة ملامحها الصامدة أمام أسى قلبها هربت دمعتان عنوةً ،فأصبحت عاجزة عن المواساة أو السؤال أكثر.
– العمر لك .. الله يرحمه.
– لا أريد من هذا العمر سوى وقتاً كافياً لأجد من حرمني منه …
بين صمتٍ ونطقٍ بدأت الكلمات ثقيلة تخرج من بين شفتيها تتحدث عن روح سكنتها ورحلت .. عن أحلامهم وآمالهم.. عن أسرة بدأت خطواتها الأولى في زمن الحرب بكثير من الحب ولكن الموت لا يحترم الحب .. بقي الحديث بين صمتٍ ودمعةٍ وغصةٍ والكثير الكثير من (مقــداد) .!!….
وصلنا الاستراحة والطفل ذو العينين الرماديتين يداعبنا بنظراتٍ طفولية مليئة بالبراءة والأمل .. كان يحدق بها بتلك النظرة المليئة بالأمل .. الأمل الذي بات بعيداً عن قلبها منذ 17 ساعةٍ…
رَفَضَتْ النزول في الاستراحة .. ذهبتُ مُسرعةً أُحضر القهوة .. حين عُدتُ وجدتُ الطفل قد أخذ مكاني وبات يحاول الحديث إليها .. وحين حاولت والدته أخذه ، رفضت وقلت لها:
ما من مشكل سأجلس بجانب العم.. بعد إذنك عَمْ …
لم يكترث باستئذاني كأنني غير موجودة !.. لم يكن الحزن هُنا أقل وطأةً، فالعم لم يبرح كل الطريق يراقب النافذة غير آبه حتى برصاصة القناص الماضية. يرن جهازه الخليوي:
” أهلاً يا عميم .. ربما ساعة من الآن خرجنا للتو من الاستراحة .. أين أخذوه الآن ؟؟ … المحكمة العسكرية!! …. نعم نعم يا عميم ماذا تقول.. من بيت نصر .. لاحول ولا قوة الا بالله .. وكيف هو وضعو ! ..
يا رب تتلطف به وتشفيه .. عميم .. سأخبرك حين أصل انشاء الله خير .. موكِل الله .. الله معك عمي”
طلبَ مني أن أرشده إلى المحكمة حين نصل فأخبرته العنوان وبعد صمت طويل لم أتجرأ على كسره:
ابني حرق قلبي
خير يا عم ؟؟
حينها بدأ يقص حكايته…
هذا الفتى سوّد وجهي وقهرني حتى الموت … لم أربيه هكذا … كنتُ أحلم أن يكون ابني خيرة الناس والكل يمدحوه لا أن يذموه.
في تلك اللحظة كنت أفكر أيهما أقسى الفقدان ! أم الخَذَلان !!!… وتابع العم وأخبرني كيف أنه أطلق النار على ضابط وحاول الفرار.
بوصولنا كانت قصة الابن الضال الذي خذل آمال والده قد شارفت على النهاية وبدأنا نتأهب للنزول، نهضتُ من مكاني وفي حين كنتُ أحضر حقيبتي كانت السيدة سوداء الملابس تساعد الرجل السبعينيّ على النزول ممسكةً بذراعه وحين شكرها قالت له:
الله يقويك ويفرج همك يا عم…. وادع لي من الله أن يطفئ حرقة قلبي.
أجابها بالمثل وكأن حزنهما اختلط للحظة وحين وقفت أنتظر التاكسي عرضت عليهما أن نتشارك التاكسي، وافق العم دون تردد، أما السيدة فقالت إن شقيق زوجها الشهيد قادم ليقلّها.. وبلحظة ظهر وأخذها وكنت أراقبهما يبتعدان .. نظرتُ إلى سيارته لأرى صورة الشهيد الملصقة على زجاج السيارة تزف خبر استشهاده..وكم صدمت وأنا اقرأ … ((الشهيد مقداد نصر)) ..!!!
شعرت بصاعقة تلفني …
التفت إلى العم فوجدته يضيع بنظراته الحزينة في دنيا أُخرى …. وهو مستمر بالدعاء أن يشفي الله الضابط وأن يهدي ابنه ..