في نهاية شهر نوفمبر من عام ٢٠١٥، وعلى طريق سراقب أوقفنا شاب بمنتصف العشرينات يرتدي شيئاً ما، يشبه لباس الجنود، لكن ما استغربناه أنه كان يلبس (شحاطة) في قدميه وكأنها وراثة، طلب هذا الشاب بطاقاتنا الشخصية فأعطيناه هذه البطاقات الملعونة، وبمجرد أن قرأ بياناتها صرخ كمن مسه الجن: “فلسطينية ومن جرمانا”، وأمرنا بالنزول، نزلت ومعي شاب عمره ١٤ عاماً، وقادنا هذا الشاب إلى نقطة تفتيش، ونادى المسؤول عنه بالشيخ قائلاً: “فلسطينية ومن جرمانا”.
خرج الشيخ، وبعد عدة أسئلة قال لنا: “لا تجزعوا فنحن والفلسطينيين أخوة لولا هذا الكلب أحمد جِبْرِيل الذي يقاتل مع النظام لكنتم بخير”، وتركنا نكمل طريقنا باتجاه الأتارب بعد أن تحادثنا ما يقارب الساعة، وقد يأتي يوم أكتب فيه الحديث الذي دار بيننا بالتفصيل، هذه الحادثة كانت عند المعارضة، أما على المقلب الآخر وعند التحقيق معي يوم اعتقلني النظام صرخ بوجهي الجندي الذي اعتقلني قائلاً: “أحماس يا ابن…..أليس كذلك؟”
ابتسمت وقلت بثقة: “أنا شيوعي ومعك هويتي وبياناتي، وما يثبت ذلك”، فضربني، وقال لي: “يعني كافر”، هاتين الحادثتين اللتين حصلتا معي تشيران بوضوح لا لَبْس فيه على ما فعله الفلسطيني بانحيازه إلى أحد طرفي الحرب السورية، هذا الفلسطيني المتهم دوماً بفلسطينيته عند الفروع الأمنية وتهمته الأولى (فلسطيني يا أخو الـ…..)، وعندما بدأت الأزمة السورية كان لابد له، وهي عادته الأزلية أن يدس أنفه بما لا يعنيه غير متعظٍ مما جرى له على مدى سنوات لجوئه فانحيازه للدكتاتور صدام حسين عندما احتل الكويت، والذي أدى إلى طرد الفلسطينيين منها، وبعد ذلك تم طرده من العراق على يد الحكومات العراقية المتعاقبة، وقبلها رمى القذافي الفلسطينيين في الصحراء، وقبل ذلك في الاْردن، وبعدها في لبنان.
وفِي كل مرة دخل الفلسطيني طرفاً في حرب لا تعنيه كان الخاسر الأكبر، لأنه الحلقة الأضعف التي يتم سحقها مرة واستغلالها عند الحاجة والتنكيل بها عندما تنتهي مهمتها، ولا ينسى أحد كيف تم اتهام الفلسطيني منذ بداية الأزمة السورية على لسان بثينة شعبان، كي يتم الزج به في أتون معركة هو الخاسر الأكبر فيها لأنها ستحرف بوصلته عن فلسطين، لا بل إنه استمرأ هذا الدور الذي رسموه له واعتقد أنه سيلعب دور البطولة غير مدرك أنه كومبارس، وسيتم التخلص منه بعدما أدى أرخص الأدوار فكان ثمن وقوفه هنا أو هناك هو دم أخوته الفلسطينيين من ناحية ومن ناحية أخرى دم أخوته السوريين الذي حملوه بين ظهرانيهم كأنه واحد منهم، لكنه أي الفلسطيني أبتلي بقيادة أقل ما يقال عنها أنها تاجرت بدمه، وقبضت ثمن وقوفها مع أو ضد ونسيت أنها في كلا الحالين تقف ضد شقيقين عندما ينتصر أحدهما سيتفرغ لها، لأنه لن يثق أنها لن تبيعه عند أول فرصة ولمن سيدفع أكثر، لكن ما يثير الدهشة والاستغراب هو دور المثقف الفلسطيني الذي نسي فلسطينيته، وتفرغ للمسألة السورية وطوى قضيته بين دفاتره القديمة ونصّب نفسه منظراً ومرشداً وكاتباً و”مفسبكاً”، وفِي النهاية قابضاً على ما تصل إليه يده من متاع الانتهازية البغضاء التي تربى عليها وتشربها منذ بداية طريقه عند أولي أمره وأرباب نعمته (على اعتبار انهم اكثر من رب).
لا وبل أصبح ملكاً أكثر من الملك فنجده يدافع عن نظام أوغل في ديكتاتوريته وفساده وظلمه، ووقف هذا الفلسطيني مدافعاً عنه ومبرراً له كل صغيرة وكبيرة بل وصل الأمر لحمل السلاح معه، تماماً كما فعل ما يسمى لواء القدس الذي ساهم بتهجير الفلسطيني بعد سرقة أمواله ولَم يقف عند هذا الحد بل وصل الأمر به لتسليم أبناء جلدته للفروع الأمنية وتصفيتهم جسدياً ومعنوياً، وفِي الطرف المقابل فعلت حركة “حماس” ومن يدور في فلكها نفس الفعل بالوقوف مع “الإسلامويين” في المعارضة وبنفس الطريقة، (قَص لصق)، لكن مع المعارضة فقامت بأقذر الأدوار متناسية قضيتها الأساسية إذا كان لها قضية في الأساس، لا بل ووقفت تمتدح اردوغان ونسيت مجازر العثمانيين وأنهم يحتلون لواء إسكندرون، وأنطاكية ويرفضون اليوم الخروج من عفرين وما حولها فقط لأن أردوغان من الإخوان المسلمين، وعليهم أن يؤازروه حتى لو احتل سوريا كلها، ولا ضير عندهم إن قام باحتلال البلاد العربية كلها مبررين له وللمعارضة أفعالهم بآيات قرآنية وأحاديث نبوية حاضرة لتفسير ما لا يفسر، وفِي كلا الحالين وقف الفلسطيني مع ما أمرته به قيادته وهو ابن هذه الفصائل وابن قيادتها، وكأنه أخيل عندما قتل هيكتور عند أسوار طروادة فقد ناداه هيكتور بابن الآلهة فقال له أخيل: بل قل، ابن العاهرة.