أنتمي لمدينة حمص السورية، وهي مشهورة بخفة الدم والطرائف التي يبرع الحمامصة في روايتها حتى لو كانت تمسهم بشكل ذاتي وتنتقص من قدراتهم العقلية. وحين كنت فتى أقطن في باب تدمر، أحد أحياء المدينة القديمة،، تساءلت عن سبب هذه الخفة الوجودية التي تصبح مزعجة في بعض الأحيان. سألت معلمي الأول، والدي عن ذلك. أحالني والدي كعادته إلى بعض الروايات التاريخية. هي لم تشف غليلي بالفعل. ثم قررت سؤال صديقي الرائع جورج الذي كان يبهرنا بنكاته. سحبني جورج بعيداً عن رفاق الحارة، وجرني نحو زقاق آخر. ثم طلب مني كتمان السر العظيم الذي سيشي به. أقسمت له أغلظ الإيمان بذلك، فأشار إلى الهواء وقال:
ــ أنا ألتقط نكاتي من الهواء!
غضبت من استهزائه بي، لكنه أشار علي بالتريث ثم الانتظار. ثم جلسنا ننتظر النكتة. كان صديقي صادقاً، إذ أقبلت نكتة جميلة تتهادى في الهواء. كانت تشبه فتاة صغيرة أنيقة مربوطة الجدائل ترتدي زيها المدرسي. التقطها جورج بسرعة ، ثم شرع برواية أجمل نكتة سمعتها على الإطلاق. قلت له:
ـ هل أستطيع أنا أيضاً التقاط النكات؟
أشار علي بمرافقته أياماً للتدرب على ذلك, ففعلت واستطعت بعد أسبوع كامل من التريب الممتع أن ألتقط أول نكتة لي . ركضت إلى أمي بها فضحكت تلك الضحكة المباركة التي سأتذكرها
طول العمر. لكن ذلك لم يشف غليلي أيضاً، فلم أعرف من أين تجيء هذه النكات الحمصية الجميلة حتى قررت أمرأ، وخرجت إلى الشارع كي ألتقط نكتة ، لكنني حين لمحتها قادمة صوبي، لم ألتقطها، بل تركتها في الهواء معلقة لبضع دقائق. ثم تجرأت وسألتها عن مكان قدومها. ضحكت بلطف، وأشارت علي بمتابعتها. تبعت النكتة بحرص شديد، فقادتني عبر شارع عمر المختار نحو حي الورشة ومن ثم نحو ساحة باب تدمر. وحين رأيتها تقودني نحو مقبرة الكثيب المجاورة، ترددت وفكرت بالرجوع، لكن النكتة اللطيفة أشارت علي أن أتبعها مجدداً. ثم وجدت نفسي في أقصى طرف من المقبرة، حيث لاحظت وجود قبر مزخرف كبير كتب على شاهدته الرخامية : قبر الضحك.
اقتربت مني النكتة، وأشارت علي بالاختباء وراء شجيرة مجاورة. وبعد حين بدأ بعض الحمامصة رجالاً ونساءً بالتوافد إلى القبر، غرسوا الآس فيه، قرأوا الفاتحة ثم صاروا يسرودون مآسي حياتهم ، من جوع وفقر ومرض وجهل وحرب. حتى ارتج القبر انفعالاً ، وخرجت منه تلك النكات الجميلة التي أعرفها جيداً. طارت النكات صوب المدينة من جديد.أخبرني جورج في اليوم التالي عن سعادته الغامرة بالتقاط عشرة نكات دفعة واحدة. أما أنا فمن يومها ، لا أضحك على النكات الحمصية.
شاعر وكاتب سوري | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية