محمود أبو بكر |
رامي شابٌ سوري خريج معهد السينما في دمشق، ولأنه من عائلة متوسط الحال، كانت ظروف عائلته تحد من تحقيق نهمه في شراء ما أثار لعابه من الكتب القيمة، لذلك فور تخرجه توجه للعمل في دار نشر لفرط اهتمامه بالقراءة، لكن لسوء الحظ، لم تدم تلك الفترة طويلاً حيث انفجرت الأوضاع بشكل درامي في سوريا، ما دفعه لترك البلد، والتوجه للقاهرة التي عانى فيها الأمرين عاملاً في مطعم سوري، ثم في معرض لبيع الملابس، بالكاد يقتطع الوقت لقراءة كتاب، أو لمشاهدة فيلم جديد.. التقيته رفقة أصدقاء بوسط القاهرة، وفي يده كتاب المؤلف الفرنسي أوليفيه روّا : «الإسلام والعلمانية» (ترجمة صالح الأشمر)، ولأني كنت قد قرأت الكتاب، لم نأخذ وقتاً طويلاً للتعارف حيث اندمجنا في نقاش عميق، ليس حول هذا الإصدار فحسب، بل أيضاً حول الكتاب المرجعي لذات المفكر “الجهل المقدس”، وعرجنا حول كتب ورؤى المفكر الجزائري محمد أركون، ومقولة “الجهل المؤسس” التي عدل من خلالها مفهوم روّا،المؤسس” التي عدل من خلالها مفهوم روّا، باعتبار أن حالة الجهل المقدس هي نتاج موضوعي لحالة التأسيس للجهل مبكراً، حين تم إسناد قضايا المعرفة لإنصاف المتعلمين.
تفرعت النقاشات واحتدمت أيضاً في لقاءات تالية، لكن بقى الود ممتداً الى أن غادر رامي خلسة نحو أوروبا عبر قوارب تضمن الموت الناجز أكثر من الحياة المُحتملة!
وبعد أكثر من عام من الاختفاء عاد رامي عبر الفيسبوك ليمد للوصال يداً، كنت سعيداً بالعودة الميمونة لصديق طالما تقاسمت معه الأفكار كما وجبات الفول والفلافل، وكان حزيناً أن “الجهل” لا يزال ممتداً هناك
حدثني كيف أنه لم يتعثر أبداً بكتاب واحد في يد أي لاجئ في الكامب، كانوا يحملون كل شيء في حقائبهم عدا الكتب !
حملوا كل تراث الشام بما في ذلك الأراجيل والمتة، والطرابيش، لكن لا أحد فكر في أن يقتل الفراغ الممتد ولو بكتاب قصص مسلية !
في المدينة حيث يسكن الآن “هناك ثمة مقاهٍ يقصدها الدمشقيون دون غيرهم، ستجد بينهم المحلل الاستراتيجي، الذي يحدثنا عن رؤيته العسكرية تجاه ما يحدث في سوريا، وآخر خلع على نفسه لقب المحلل السياسي للقارة العجوز حيث لا يكف عن تفسير ظاهرة تنامي التيار اليميني المتطرف وتداعياته على طالبي الهجرة، وثالث خبير في اللغات الأوربية لكن يا صديقي لا أحد من هؤلاء يملك تعليما متوسطاً، ولا أحداً قرأ كتاباً منذ اكثر من عقد ونيف!”.
حزنت لتأملاته وأنا استحضر قصصاً كثيرة عن أشخاص وجدوا أنفسهم في مدن أوروبا وأمريكا وأستراليا بالمصادفة، وحملوا معهم كل تراث الأوطان من كسل عقلي، وازدراء للتعليم والمعرفة، وبقوا تماماً كـ “ذباب المقاهي”، تارة تهشهم واُخرى يهشهونها، يلتفون على موائد النميمة الشهية، ينتصرون دائماً في معارك وهمية، بين المقهى والفيسبوك، حيث لا شيء مكلف!
يشعرون بتخمة نضال “الهاف تايم” حيث ثمة انتصارات وهمية يمكن تحقيقها، في معارك متخيلة، إنها محض لعبة تضمن لهم السلام النفسي، تماماً كالمزرعة السعيدة وألعاب الكومبيوتر حيث يجري كل شيء في عالم من الافتراض!.
هؤلاء “ذباب المقاهي وجنرالات الافتراض، يفتون في كل شيء، ويدعون المعرفة، بل ويحاربون كل من أمتلك اداة من أدوات المعرفة الفعلية..!
بل قد يصل الأمر إلى حد الإفتاء في إصدارات فكرية وأدبية، لم يتعثروا بها أبداً، وان أمتلكوا فرصة العثور عليها لا يملكون القدرة على قراءتها !
إنها أزمة “الطارئون” على الأمكنة، يعيشون على حوافها غرباءً كما أتوا إليها أول مرة خفافاً، لا يحملون سوى خزائن الذاكرة الخراب، وما تيسر من أسماء القبائل، وأساطير الأسلاف !
تبادلنا (أنا وصديقي رامي) ضحكات متخيلة عبر أيقونات جاهزة على علب الموبايل، حيث كل شيء تم تعليبه على غفلة من حس الزمن.. كان متعجلاً للالتحاق بكورس اللغة الجديدة، وكنت أهمُ للحاق فيلمٍ وثائقيٍ يعرض بعد أقل من نصف ساعة.. لوّحنا لبعضنا بأكفٍ افتراضية وتواعدنا على تبادل هواجس أخرى قريباً.
كاتب وصحفي | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية