ركضت على أصوات عويلهن، نسيت أنها ترتدي قميص نومها المُوَرَّد ذا الشيّالين.
ركضت متعثرة على أدراج البناء، كان صوتهن يأتي حاداً، عالياً، يخرج من مكان ما أعمق بكثير من حناجرهن، يتوقف أحياناً لثوان معدودات ثم يعود ليصدح مجدداً إلى أن يختنق فيما يشبه النخير. حين وصَلت إلى الطابق الثاني سمعت صراخ الرجال وضجيج الأقدام على أسفلت الحارة. واستمر عويل النساء.
في الطابق الأول اصطدمت بجارها أبو حسام، كان يقف أمام باب شقته في الفانيلا العتيقة الكاحتة ذات الثقوب المتوزعة على الظهر والبطن:
– لا تطلعي لبرّا يا سُكينة، رجعي انضبّي ببيتك..
لكنها لم تلتفت إليه، أكملت ركضها المتعثر نحو مدخل البناء، سمعت خرطشة سلاح، التفتت، فشاهدته يخرطش مسدسه، حينها فقط توقفت ذاهلة للحظات.
أبعدها أبو حسام عن طريقه نحو المدخل وخرج إلى ضوء الظُهر المائل للبرتقالي.
ترددت للحظات.. وكأن الزمن قد توقف.. ثم لحقته.
*****
كيس خيش السُكّر مرمي على الرصيف قرب البناء تسيل منه خطوط دم متفاوتة الغزارة لتجتمع فيما يشبه جدولاً صغيراً يكمل مسيره إلى مصرف المياه في الشارع قرب الرصيف، جيران وغرباء يحيطون به ونساء الحارة اللواتي يحاولن الإمساك بأم سامي الراكعة قرب الكيس المفتوح، تمزق أزرار فستانها البيتي بصمت لاطمة صدرها، شعرها منفوش. من فتحة الكيس تظهر أصابع يد، وشعر رأس تغطي وجهه حواف الكيس.
يخرج الصوت من أحشائها:
– سامي… يا عمري شو عملوا فيك الكلاب يا سامي..
لم تستوعب ما تراه، أغمضت عينيها وفتحتهما.. لم تتغير الصورة، ولكن فسيفساء اللوحة الغريبة بدأت بالاكتمال، فقد شاهدت أسلحة في أيدي بعض الرجال لم تنتبه لها بداية.
وبما يشبه الحركة البطيئة شاهدتهم ينفضّون عن أم سامي وكيسها، يلحق بهم أبو حسام في فانيلته الممزقة وشحاطه البلاستيكي.
*****
سيارات حفظ النظام تغلق منفذ الحارة إلى الحي المجاور، عساكر صغار مسلحين بالهراوات يصطفون صفاً واحداً وكأنه جدار هزيل.
رجال الحارة المسلحين بالبنادق والمسدسات والعصي يتدافعون مع شباب حفظ النظام صارخين بكلمات بذيئة محاولين خرق جدارهم المتهالك، وفي الطرف الآخر من الحارة، خلف جدار حفظ النظام بعض رجال من الحارة الأخرى مسلحون بما أمكن أيضاً، يُفرغون حقدهم بتحطيم بعض واجهات المحال التجارية، وتكسير الأشجار للتسلح بأغصانها الغضة في محاولة لاستفزاز الطرف الآخر ما وراء الجدار.
*****
قطرات العرق اللزجة تسيل على ظهرها العاري تحت شمس الظهيرة اللاذعة، ما تزال مذهولة من أصابع يد سامي التي صافحتها مراراً على مر السنوات الآمنة وها هي الآن تطل من الكيس..
تذكرت أصابعه حين كانت أقل خشونة وأصغر حجماً، تكاد قبضة يده الصغيرة تتسع في كف يدها.
أحبّت مداعبة خديه الصغيرين الممتلئين الورديين كلما صادفته على فسحة الدرج أو في منزلهم، وكان ينزعج دوماً من حركتها هذه وهو يُبعد وجهه الصغير:
– خالة سُكينة.. خلص..
فكّرت: هل حقاً هذه يده؟
أما أسراب الذباب فلم توفر وقتا،ً تحوّم حول الكيس وتحط على خيوط الدم الكثيفة التي بدأت بالتخثر على حواف المصرف.
*****
وصل سيل التدافع إلى أشدّه من الطرفين، وشباب حفظ النظام المسلحين بهراواتهم محصورين في المنتصف، وكأنهم كيس ملاكمة، يصدّون الضربات التي تنهال عليهم من الجانبين.
*****
أصابع أم سامي تداعب أصابع اليد المطلة من الكيس، ثم تنتقل لتتخلل بين خصلات شعره الكستنائي التي يبس عليها الدم.
طلقات رصاص، صرخات الرجال تمتزج بولاويل النساء اللواتي يستشعرن حدوث ما قد يكون أسوأ من مصير سامي، مترددات وكأنهن سنابل قمح في حقل تحركها الريح، لا يتجرأن التحرك من مكانهن، حائرات بين رجالهن ومصير سامي المُقطّع في الكيس.
تخطو سُكينة خطوة باتجاه الجدار البشري الهش، تتبعها خطوة أخرى ثم أخرى، تبتعد عن النساء وكأنها منومة.
امرأة تصرخ بها:
– سُكينة..
لكنها لا تسمع.
تشدها ياسمين من يدها حتى تكاد تشعر سُكينة بأظافرها تنغرز في اللحم، تمسك بها من خاصرتها ولكن سُكينة تفلت منها ناسية فردة شحاطها على إسفلت الطريق الحامي.
*****
تركض سُكينة كمجنونة الحارة وسط جموع الرجال المتدافعين الهائجين:
– حاجة دمّ.. دخيلكون.. بيكفيّ دم..
تحاول الإمساك بهم، تحاول النظر في أعينهم:
– بيكفّي دم.. بيكفيّ..
تدفعها الأيدي بعيداً، تتلقى الضربات العمياء من جميع الجهات، ولكنها تصرّ وهي تنظر في عيني أحدهم:
– بيكفّي دم.. بيكفّي..
تتلقى ضربة عصا قوية على رقبتها من الخلف ويسوَدّ المشهد.
حمص 2011
موقع قلم رصاص الثقافي