زيد قطريب |
لطالما قال خليل صويلح (1959)، إن نصه الحلم ربما يكون قد نسيه في قريته النائية بريف الحسكة في الشمال السوري، قبل أن يأتي إلى الشام كي يدرس التاريخ في جامعتها ويعمل في الصحافة الثقافية ويطل على المشهد كشاعر نشر عدة مجموعات في التسعينيات قبل أن يبدأ بالكتابة الروائية.. فعمله الأخير “اختبار الندم” الذي فاز مؤخراً بـ”جائزة الشيخ زايد للأدب”، حمل ملامح من ماضيه البعيد الذي كتب من أجوائه رواية “سيأتيك الغزال” (2011)، لكنه دمجها مع أحداث اليوم وبيئة المدينة في دمشق والحياة المعاصرة، لنقرأ الحرب والحب والمقهى والأصدقاء الذين تشردوا بسبب الأحداث وعصفت بهم النوب من كل حدب وصوب.. هكذا يمكن القول إن البطل الذي كان طفلاً في “سيأتيك الغزال” قد شاخ اليوم وبدأ باختبار الندم في توليفة معرفية سردية تفصح عن قناعات المؤلف التي يلخصها من صفحات الرواية الأولى حين يقول: “المسألة تتعلق بما نفكّر به سراً، وننكره علناً، ما نرغب به ونندم على تنفيذه..”..
استناداً إلى هذه القاعدة المعرفية الفلسفية تجري أحداث اختبار الندم، بسردية عالية من أهم ميزاتها الجملة القصيرة المسنونة بشكل حاد دون زوائد، والمزودة ببنك معلومات غني عن كتاب محليين وعالميين عدا عن المواقف النقدية من الشعر والكتابة الروائية وغير ذلك من هموم الإبداع..
يمكن الحديث اليوم عن روائي قلب الطاولة على الأسماء المستهلكة في السرد السوري، ولو استعدنا تقرير لجنة تحكيم الجائزة حول أحقية صويلح و”اختبار الندم” بهذه الجائزة لتوضَّح الكثير مما نقصده هنا.. فالرواية تعتبر بصمة مختلف في السرد السوري، بعدما استكان للكلاسيكيات وخضع لأسماء بعينها دون تجديد حقيقي.. الكثيرون حاولوا تحديد ملامح الرويّ عند صويلح، وهل قدومه من الشعر أثرى الجانب الأسلوبي للرواية فجعله يصيب كبد المعنى من أول سهم بلا تمهيد أو تردد أو دوران حول الفكرة؟. أصدر صويلح في بداية تجربته عدة كتب شعرية منها “هكذا كان المشهد” و”اقتفاء الأثر”، في تلك المرحلة التي كانت الفورات الشعرية من ملامحها المميزة، استطاع صويلح أن يبني خصوصية في الجملة الشعرية التي انتقلت مورثاتها إلى السرد الروائي وجعلته جديداً وفريداً فعلاً.. عن تسلل جينات الشعر إلى داخل النص الروائي، يقول صويلح:
(أظن أنني لم أغادر منطقة الشعر تماماً، إذ حاولت الاستفادة من جماليات قصيدة النثر وجذبها إلى وعاء السرد كفضاء مجاور يمنح ما هو حكائي ما يشبه خبط أجنحة الطائر، كما أن الرواية تحتمل استضافة الفنون الأخرى، ليس الشعر وحده، وإنما الفنون المشهدية بتأثير اهتماماتي الشخصية بالسينما والتشكيل. كل هذه الفضاءات تتضافر في نسيج سردي واحد يمنح الرواية ما هو أبعد من تخطيطات القماشة الأولى للسرد).
في “اختبار الندم” تلعب المرأة مهمة الكشف عن خبايا المجتمع السوري في الحرب، لتظهر تفاصيل الأحداث والتبدلات التي عصفت بهذا النسيج في السنوات الماضية من خلال عابرات كان لهنّ سجالات مع الراوي أو جلسات حب أو مكاشفات من نوع ما.. فبدءا من شخصية “آمال ناجي” القادمة من قرية في الريف الجنوبي، وصولاً إلى “نارنج عبد الحميد” أو “ر.ع.س” التي ماتت وحيدة في منزلها بحي الشعلان ونهشها كلباها بسبب الجوع!. عن هذه النقطة يقول صويلح:
(أعوّل في معظم أعمالي على تأنيث السرد كطوق نجاة من ذكورية تاريخية. في هذه الرواية تحضر مفردة الاغتصاب كانتقام بهيمي من الجسد الأنثوي، بالإضافة إلى التنكيل بهذا الجسد بطرق مختلفة، حسيّة ولفظية. أرى أن المرأة كانت ضحية القسوة التي أفرزتها الحرب بوضوح، لذلك تتعدد طبقات العنف اتجاهها، حتى لو كانت بعيدة عن أتون النار مباشرة).
في الرواية أحكام نقدية تفسر هاجس خليل صويلح اللغوي فيما يتعلق بالكتابة الجديدة، فالرسالة التي تكتبها “أسمهان مشعل” وتقول فيها: “أنتظرك بكامل مشمشي” فيها استعارة واضحة من محمود درويش، وهي ما يدفع الراوي للرد: “تبا للمشمش والسفرجل والكرز” ويطالبها بالبحث عن لونها الخاص خارج إطار التقليد!. هاجس الكتابة الجديدة في السرد، يدفع صويلح إلى التجريب في كل مرة، ففي كل الكتب التي وصلتنا نعثر على نص غني، لا يمشي على عكازين، بل يبدو مدججاً بالمعلومات الثقافية عن أشهر الروايات والأفلام، ومسبوكاً في الوقت نفسه بنصل المفردات التي لا تحتمل استطالات تؤدي إلى ملل القارىء.. يقول صويلح:
(كان الراوي مدرِّباً لورشة كتابة السيناريو السينمائي، بالإضافة إلى كتابته الرواية، وتالياً، فإن البعد المعرفي للشخصية يأتي من طبيعة اهتماماته وثقافته، وهو حين يسترشد بمرجعيات ثقافية، لا تأتي من باب الاستعراض، بقدر ما هي حاجة ثقافية تخص مهنته في المقام الأول).
لا يبدو غريباً أن تحط رحال الراوي أو البطل، في نهاية الرواية في مضارب شخصية “نارنج عبد الحميد”، المتمردة والمثقلة بذاكرة ثقيلة من الندوب والعذابات والآمال المسحوقة، لكن النهاية المفجعة في اختفاء “نارنج” دفعت البطل للقول: “بسفر نارنج لم تعد تعنيني الأخريات”، هل هو موقف معرفي أو تعاطف مع شباب يشكلون جزءاً من الهاجس السوري؟. يقول صويلح:
(كان على نارنج أن تهجر مكاناً انتهكها مرتين، مرّة باسم الحب، ومرّة باسم الكراهية، وبناء على ذلك سيعيش الراوي بغيابها وجع الفقدان، هذا الذي أصاب الخريطة السورية بتمزّقات لا شفاء منها).
تجربة خليل صويلح السردية، تعيد الأسئلة حول مكانة الشعر في الثقافة العربية وهل طغت عليه الرواية حقاً؟ خاصة أن الكاتب بدأ شاعراً كما أسلفنا واعترف أنه لم يغادر فضاءات الشعر، بل حمله مع غيره من الفنون إلى السرد كي يبدو العمل الروائي غنياً متشابكاً وبسيطاً في آن.. تجربة تستحق الوقوف مطولاً لأنه تحمل فرادتها بشكل غير مهجن ولا مستنسخ من أحد..
ــ من إصدارات الكاتب: «ورّاق الحب» (2002)، «بريد عاجل» (2004) «دع عنك لومي» (2006)، «سارة وزهور وناريمان» (2008)، “سيأتيك الغزال” 2011، «جنةالبرابرة» (2014)..
“اختبار الندم” 2017. دار هاشيت انطوان بيروت. ونالت جائزة الشيخ زايد للرواية العربية.
مجلة الشارقة الثقافية