المخيم (الجزء الثاني – ذاكرة الأشياء)
أجلس على المصطبة أمام البيت، تلك التي رسم مازن على جدارها الكعبة وزينه بورود ملونة حين عادا خديجة وعلي من الحج.. ومن يومها صرنا نناديهما بالحاج أبي حسين والحاجة أم حسين.. المصطبة التي كانت الحاجة تحب الجلوس عليها لتتبادل الأخبار مع الجارات اللواتي بعمرها، والذكريات أيضاً. لم يبق منهن أحد على قيد الحياة، لا الجارات .. ولا الذكريات.
لا يحيط بي سوى السكون المغري بينما ميسون وأسامة يلملمان بعض أغراض البيت لأخذها معنا كذكرى، وهما اللذان أتيا لا ليأخذا شيئاً من البيت بل ليرياه فقط..
طفل في حوالي العاشرة يرتدي تيشيرتاً أحمر يحاول قيادة دراجة هوائية وجدها في أحد البيوت، سألته ما الذي في الكيس الذي معه:
– دحاحل.. لاقيتو بهاي الدار..
تذكرت ميادة وشتائمها البذيئة بحق الأولاد وأمهاتهم، عندما كانت تخرج إلى الشارع لتُسكتهم حين يفسدون عليها قيلولة ما بعد الظهر بألعابهم وشيطناتهم وصراخهم الجنوني، وخاصة تلك الكرة الملعونة التي برعوا بتصويبها على جدار غرفة نومها “برّاد التفاح”.
يظهر في الحارة رجل نحيل غائر العينين ينظر إلي باستغراب وأنا جالسة على المصطبة:
– أنت بنت أبو حسين؟ ميادة؟
– لا.. أنا رفيقتها.. بس ميسون وأسامة بالبيت.. إذا بدك عمي فوت سلم عليهون..
فيطرق الباب الحديدي المفتوح صائحاً:
– يا أهل الدار.. وينكوا؟
فتعود الحياة للحارة من جديد..
وكأن البيوت لم يغادرها أصحابها.
*****
مع انتصاف النهار تدب الحياة في الحارة، ثلاث معفّشين شباب ملتهين بكيفية وضع براد البوظة على الموتور وتثبيته، يمزقون ستارة صالون منزل ما ليحوّلوها إلى حبال يشدّون بها البراد إلى الموتور، أحد الجيران في البناء المقابل يكسّر ما تبقى من زجاج في بيته، لا يستطيع إخراجه ولا يريد تركه للصوص، زوجته تقف حائرة في المدخل وهي تستمع إلى صوت تكسّر أوانيها:
– قللي اكسريهن أنت.. ما قدرت.. كل قطعة فيهون وإلها ذكرى..
أسلّم بحرارة على أبو علي البقال وزوجته اللذان أتيا أيضاً لتفقد بيتهما، نجتمع، نضحك، ونتذكر.
أبو علي يسأل رجلاً عن صحة زوجته فيجيبه:
– عطتك عمرا من تلت سنين..
ثم يتابعون الحديث وكأن شيء لم يكن، ويمر ذِكر الموت على لسانه عادياً كتحية الصباح.
ينظر إلينا شاب يضع مسدساً على خصره، جالس على كرسي ملتوي وسط الحارة، ثم يقرر أخيراً -وهو يسحب كرسياً من المكتب العقاري ذا الواجهة المكسورة ويعرضه على أحد الرجال ليستريح- تنبيهنا إلى عبوة ناسفة منسية لم يتم تفكيكها موجودة في الطابق الثاني.
تهمس زوجة الجار أنها لم تر العبوة، كل ما رأته في تلك الشقة هو أثاث بيتها الذي أُنزِلَ من الطابق الثالث إلى الثاني وُكّدس في تلك الشقة المفخخة لسبب غير معلوم.
يخبرنا أبو علي بأن هناك عائلة من معارفهم قررت أن تبات اليوم في المخيم، فهم يخشون على ما تبقى من أغراض بيوتهم.
كيف سيباتون؟ لا ماء ولا كهرباء، حتى إشارة الأبراج الخليوية شبه مقطوعة، كالتخييم الإجباري وسط صحراء في فلم خيالي عن المستقبل ما بعد القيامة.
تكتب ميسون ورقة تلصقها على باب البيت بعد إغلاقه:
– “مسكون”..
وكأن هذه الكلمة المرسومة بالأزرق ستمنع المختصين من الدخول وإخراج الغسالة والفرن.. وكأنها شريط عبوة ناسف ملتفّ مكوّن من خمسة أحرف وقد يحمي المكان.. لكن.. يبقى لديها أمل.
– يللي بيقهرك أنو غراض بيتك عم تنسرق قدام عينيك وأنت واقف عم تتفرج.
تقول زوجة الجار لميسون، فتسقط ورقة “مسكون” عن الباب بفعل الهواء.
*****
لم نستطع المرور إلى بيت ميسون عبر شارع صفد.. حجم الردم كبير ولا يساعد على التسلق فقررنا الالتفاف نحوه عبر شارع المدارس التي لم يبق منها شيء سوى هياكل فارغة، وحفر دائرية تتوسط الطريق. أفكر بنوع السلاح الذي يمكن أن يترك حفرة عمقها أربعة أمتار وقطرها حوالي الستة. ما الذي جرى هنا خلال الشهر الماضي؟ لا أستطيع التصور.
تصادفنا امرأة عجوز تجر عربة قماشية صغيرة ذات عجلات تضع فيها بعض أغراضها:
– لازم محمود عباس ييجي ويشوف.. خليه يشوف إيش صار بالمخيم..
– مين سائل فينا يا خالتي..
تلفظها إحدى النسوة وتكمل طريقها.
نلف في شارع جانبي سالك تخرج منه سيارة محملة بالعفش، نسير لآخره متسلقين فوق الردم لنصل إلى شارع لوبية المفصول في المنتصف بساتر من الردم والمعدن المكوّم، الجهة اليمنى تؤدي إلى شارع فلسطين، اليسرى نحو اليرموك، لكن المعادلة تبدو مستحيلة.
كان شارع لوبية فيما مضى من أكثر أسواق ضواحي دمشق ازدهاراً وحيوية، بضاعته تنافس جودة بضائع الحمراء والصالحية وأرخص ثمناً.
كان هذا منذ ست سنوات فقط.
في الحارة الضيقة حيث بيت ميسون تصل جسور من أبواب مخلّعة بين الطوابق العليا من البيوت المتقابلة لتسهّل الانتقال السريع بين الأبنية تماماً كالطلّاقيات، لكن هذه معلقة في الهواء. كل ما في البيت على حاله من أثاث وكهربائيات وزجاج، تغطيه فقط طبقة سميكة من غبار.
لم يكن على أهالي المخيم اصطحاب مفاتيح بيوتهم معهم كما فعل جدودهم عام 48 آملين بالعودة، فجميع الأبواب مخلّعة لا تحتاج لمفتاح.
ينزع أسامة صورة ابن عمه المتوفى عن الجدار، فقد أوصت حنين بأنها لا تريد شيئاً من البيت سوى صورة أبيها. تتكلم ميسون مع جارتها التي أتت لتفقد بيتها أيضاً فتخبرها تلك بأنها استطاعت إخراج عفشها بـ 150 ألف ليرة سورية وتعطي ميسون رقم الرجل المختص بهذا الأمر.
أنصح ميسون بالإسراع والعودة في اليوم التالي علها تستطيع إنقاذ ما يمكن، ففي الشقة المقابلة نسمع حركة وضجيج ودور شقة ميسون قادم بسرعة لا محالة.
بعض البيوت تتدلى من نوافذها حبال تسهّل إخراج الأثاث بعد تفكيكه، تقنية تستخدم إن كانت الأدراج متضررة كفاية وغير صالحة للصعود والهبوط.
وسط الشارع يجلس شاب على القطعة الخارجية لمكيف هواء بينما تلملم أمه بعض الأغراض داخل حقيبة بينها قطرميز زجاجي كبير ذا غطاء:
– وهاد؟ كبيه.. إيش بدك فيه؟
يقول الشاب متأففاً لأمه فتجيب:
– هاد يللي مو عاجبك بتعرف أديش حقه هلأ؟ خمس تالاف ليرة..
أضحك بينما نعود أدراجنا محمّلين بصور الموتى وفناجين القهوة وبعض من صور الأحياء عبر نفق مرتجل في أحد الدكاكين، سواتره برادات مصفوفة بالعرض فوق بعضها البعض، هذا النفق الممترس هو الطريق الوحيد السالك نحو شارع اليرموك الرئيسي.
الأبنية محروقة من الجانبين باتجاه مشفى فايز حلاوة. امرأة تجلس فوق الردم شاردة في عالم آخر، امرأة أخرى تبدو مرتبكة وهي تحمل على كتفها سجادة منزلها الملفوفة بعناية وفي اليد الأخرى تحمل صينية لامعة.
يسيرون محملين بأكياس هزيلة بينما تسير سيارات السوزوكي بموازاتهم محمّلة بالأثاث. أبنية بأكملها على جانبي الشارع وقد تحولت إلى طبقات متراكبة وكأنها كرتون مطوي. أبحث بعيني عن المحل الذي اشتريت منه فستان عرسي فأجده محروقاً تماماً. أتذكر الفستان، لم ارتديه.. مازال معلقاً في الخزانة حتى الآن.
يحفرون الرصيف الأيمن ويسحبون كابلات الكهرباء المدفونة في الأرض، لم يبق كبل إلا وسحبوه.
أما زالوا يحلمون بإعادة الإعمار و”العودة”؟ إلى أين؟ إلى خراب لا يمكن إصلاحه إلا بقدرة قادر، إلى ذاكرة مدفونة تحت الردم وفي أعماق الدماغ والقلب والصور الفوتوغرافية المحترقة؟
وبدل أن نخرج من الطريق الرئيسي باتجاه البطيخة يدفعوننا كقطعان يسوقها راع مسلح نحو شارع ضيق إلى اليمين، نهبط أدراجاً تقودنا إلى قبو تحول لمستودع يودي بنا لبداية شارع فلسطين، فنسلك تفرّعات أخرى تخرجنا من حارة ضيقة قرب جامع البشير حيث نجلس ونستريح عند الحاجز. خزان ماء مرتجل في الطريق كتب عليه “ما في وفا” يعبئ منه أسامة الماء في زجاجة لنغسل أيدينا ووجوهنا المتسخة بالتراب والسخام.
تتفق ميسون مع “أبو النار” على إخراج أغراضها في الغد:
– كيف بلاقيك؟
– اسألي علي مين ما كان على الحاجز.. بيدلّوك..
نخرج من شارع فرعي في الرابعة، بينما مازال الناس ينتظرون عند البطيخة الإذن بالدخول منذ الساعة العاشرة، وتعود الحياة إلى إيقاعها الطبيعي رغم الشمس الحارقة.
موقع قلم رصاص الثقافي