الرئيسية » رصاص ناعم » مَي زيادة : حمامةٌ آمنةٌ بين يديّ واسيني الأعرج

مَي زيادة : حمامةٌ آمنةٌ بين يديّ واسيني الأعرج

“أخيراً دوّنتكَ يا همَّ القلب وجرحه”.

عبارة تسرح بالقارئ وتعود به إلى الورق الأبيض. إلى أصلِ الحكاية المأساوية التي كان الورق منقذها. فأن يقوم أديبٌ وباحثٌ بتدوين نهاية سيرة أديبة عبقرية مثل “مي زيادة “، وأن يكشف ما كان مستوراً ومخبوءاً ويقدمه للعالم، يعني أن يتمتع بقدرٍ عالٍ من الرَّهافة, ويتأرّق من سرعة أكبر على البكاء.

البكاء فقط، والذي لن يكون مبالغة ولا غلواً في الوصف لو كان آخر ما قد يصيب قارئ رواية ( ليالي إيزيس كوبيا ) بعد أن يغلق دفتيها .

وبقلم الأديب الجزائري الكبير “واسيني الأعرج”، نقرأ حكاية النهاية لأديبة عربية أربكت عمالقة الأدب في العالم العربي، وشكّلتْ إلهاماً غير مسبوقٍ لكثيرٍ من أدباء العرب. فكانت الأثيرةَ في قلب “النبي”جبران خليل جبران، والهوس الذي أرّق ليالي محمود العقاد، في حين كان العميد طه حسين العاشق الأقل ضجيجاً من بينهم .

فراشةُ النثرِ، وربّةُ أول وأهم صالون أدبي ثقافي في القاهرة. ترقد اليوم بسلام. حمامةً آمنةً بين يديّ الكاتب الحانية.

وكعادته، صاحب رسائل الصبابة والجوى، يُمسك بتلاليب روح القارئ، فتكاد العين تشهق بالدمع خلف السطور. تتسلق التخيلات والنهايات المحتملة وغير المحتملة، باشتهاء وَلِهٍ ماجنٍ.

فلم يكن هيّناً عليه احتمال اختفاء هذا القدر الكبير من الظلم، ولم تكن فداحة النهاية تحتمل لأن تبقى طي الكتمان بعد سنوات من البحث والتنقيب عن مخطوطة البؤس الأبديّ، والتي خطّتْهَا الأديبة الفلسطينية وسط ملحمة من البرد والخذلان والتعذيب، ومع ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية، كانت تتضافر سلسلة الخوف وتتجمّعْ لتُشكّلَ حقيقة مرّةً بقيت مخبوءة سنوات بعيداً عن أحباب الأديبة وقرائها. تجمّعت كلها في يدِ مجتمعٍ شرقيّ مريض, وحداثة معطوبة منخورة كما النعال البالية. 

يتسرب فيها إبداع المرأة ويتبخر نحو سماء بلّاعةٍ كثقب أسود، تذروه كالهشيم إلى غير رجعة .

” مريمتك أنا يا الله .. لماذا تخليت عني .؟”

” كيف للربّ أن يتواطأ مع القتلة ..؟ .

من بين سطور الحكاية. تخرج هذه الصرخات، أنّاتُ الحمامة الجريحة في قلب بوتقةٍ تنصهر فيها الأجوبة وتذوب. يخطُّ الأديب خوف _الصغيرة الكبيرة _ بعد أن كاد يصل إلى أعتاب الذعر، وعلى أجنحة عذاباتها، يسردُ تفاصيل تخلي عائلة لم تجد فيها سوى ثروة، شكّلت لابن عمها “جوزيف” صيداً ثميناً، بعد أن ائتمنته على كلّ ما تملك، بدءاً من قلبها، فكانت العصفورية أول ما قدم لها من هدايا.

ووسط تخلي العشاق والأصدقاء في قلب عاصفة من النبذ والرفض من قبل أسرة كادت تشابه القبيلة في عصبيتها. يحضُرُ اليوم ” واسيني الأعرج” على أعتاب القرن الواحد والعشرين، وبكل ما فيه من شغف وحب. الكاتب الذي عهدناه معتّقّاً بالحزن. يُعيد الهوية لقلمٍ كسره فقْدُ الأب والأم والحبيب. وهشمته نار القريب الذي صار غريباً وبعيداً بعد النجم عن الأرض.

وسط عُريٍّ يفضحه موت الأحبة. تُطوى كل المجاملات والملابسات، فتجد الأديبة الحزينة نفسها في عالم تكتشف أنه لم يكن يوماً لها. لتكمل الرواية وصف عزلة العصفورية الصماء التي لم تزد من وقت الأديبة إلا ليالٍ موحشةً تشبه الموت المقسط بصرخات الاستغاثة، فتغوص في بحر من الآلام والإضراب عن الطعام والتعذيب والإرغام إلى الأسوأ من ذلك كله، الحرمان من الهوس الأجمل والشجن الأشهى، القلم والكتابة.

يُبرز الكاتب عبر السطور غيمة الناصرة والطفلة التي كانت تلامس السماء كل صباح، كيف تحولت إلى روح مكبلة بالهمّ, وكيف تخلت الألقاب عن صاحبتها والمنجزات عن مبدعتها. كيف تبخرت الحروف من بين رفوف المكتبات العربية لتنام في النهاية على سرير بارد وأيادٍ تواطأت مع الغدر, وألصقت بها لقب ” المجنونة المصرية “.

بكل ذلك البؤس. نلحظ عبر الرواية مقاربة مدهشة يخطّها الكاتب بمشابهة تكاد تكون التوأم بين نهاية الأديبة الفلسطينية، وبين نهاية النحاتة الفرنسية “كامي كلوديل”، بعد أن وضع حبيبها النحات الشهير “أوغست رودان” يده على منجزاتها، وزجَّها في مشفى الأمراض العقلية. لتغرق كلتاهما في بحر واحد، ومُصَاب ٍبارد يكاد يشبه الموت بقلب نابض. وحيث يصبح الموت اختناقاً، ترحل الذاكرة بعيداً عن جدران العصفورية الميتة إلى صور صراع مع رجال حداثيين شاخوا قبل أن يكبروا, عاشوا بأدمغة مخرّبة في قلب حضارة أكبر منهم، فيسترجع الكاتب وإياهم روح الأديبة التي عاشت بينهم غريبة هادئة، ورحلت يائسة.

“إيزيس كوبيا” – الاسم المستعار الذي نشرت به ديوانها الأول عام 1911 – رحلت بعد فقدان المقربين، ورسمتْ بين جدران مشبعةٍ بالأنين تمردها وخطَّتْ حقيقة نهايتها، ليأتي الكاتب الباحث كمخلّصٍ جاء على درب الآلام. يرفع عن كاهل روحها الصليب، وينصف قامة أدبية من بين براثن مؤامرة بشعة.

“واسيني” الذي واسى روحها المتعبة. أدرج الحكاية في ثلاثمائة ليلة وليلة. تحكي فيها شهرزاد التي صارت “المجنونة” قصة الظلم والوأد، ليس من فوق أسرة وثيرة، بل من على سرير متجمد لم يعرف الدفء يوماً، وفي معتقلٍ يُظهره الكاتب كما كان في المخطوطة، جِحْر ذئابٍ يطوف بالعويل والعواء.

تسافر بنا الرواية عبر ( 390) صفحة، بين الخيال والواقع، لتعرض قصة ألم، ومجتمعاً حاز عليه الرجل بقبضته وسطوته، وأديبة فرضت نفسها عليه قسراً، بقوة الإبداع والعلم والقدرات اللا متناهية مثل إتقان لغات متعددة، وترجمة النصوص الشعرية والنثرية. قبل أن ترحل عن عالم أسود، وكأن ما عاشته كان سراباً، وما تقدمت به من أدب صار رماداً. وقبل أن يتدخل الأديب الراحل “أمين الريحاني “، مع بعض من الأصدقاء والأسر التي سكنت الشام على رأسهم أفراد من أسرة الأمير عبد القادر الجزائري، ليتم رفع الحجر عنها والانتقال للعيش في منزل لا تطيق فيه صبراً حتى تعود للقاهرة، وتكمل حياة العزلة والوحدة وترحل هناك عام 1941 في جنازة مشى فيها ثلاثة فقط. ثلاثة رفعوا أيديهم للسماء ودعوا للأديبة العربية بالرحمة، وهم ( خليل مطران، أنطوان الجميل، أحمد لطفي السيد).

“إني أموت، لكني أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني”. آخر ما كتبته “مي” على ظهر المخطوطة التي كشفها الباحث بين جدران دير “عينطورة ” في لبنان، بعد أن سافر في رحلة البحث عنها من الجزائر إلى مصر وباريس وفلسطين ولبنان. يذكر الكاتب أن الأديبة لم تسترجع حقوقها المادية، ولم ينصفها القضاء، بل توفيت فقيرة وحيدة بعد أن كانت أثيرة القلوب، والحبيبة في قلب ابن عمّ، لم يشفع لها حبه في قلبها عنده حتى تآمر عليها واستحوذ على أملاكها وعقلها وحريتها. رواية تترك بصمة في حياة قارئها. تصف معركة أديبة حاربت مجتمع الرجال وحيدة، وقدمت له منجزاتها وعلمها، فما كان منه إلا أن يبتسم ساخراً حتى يبان سنه الذهبي، بينما كان خلف الكواليس يُجردها من عقلها، ويُعرّي إبداعها، ليجعل منها صورة امرأة ملفوفة بمئزر التنظيف، وعصاة الغسيل.

“مي” المحاربة على أعتاب النقاء، والمقامرة في دخولها عالم الكتابة وسط مجتمع يجلدُ أبناءه بجوع مستدام، ويظهر ساديته المفرطة نحوهم بنهم الذئاب.  مأساةٌ أدبية تدفع إلى التساؤل بخيبة. هل يجب على المرأة في هذا العالم أن تعدّ أصابعها للعشرة قبل أن تكتب..؟ وإلى أن تظهر الإجابات الخفية، أكتب إلى ذلك الهوس في العدوِ خلف الحقيقة. وإلى ذلك السهر والهبل حتى الإعياء بغية القبض عليها، والظفر بإنصاف روح أديبة رحلت قبل قرابة ثمانين عام كل الشكر والتقدير. وإلى الأديب والباحث الكبير “واسيني الأعرج”. اليوم ترقد روح “ميّ” بسلام حمامةً في جنتها، آمنةٌ دافئة.

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن غنوة فضة

غنوة فضة
كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري.

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *