رؤى بستون |
يصرخ صوت في رأسه ” اركض يا سعيد، اركض” تحركت قدماه بسرعة كبيرة كأنهما انفصلتا عن جسده، ينبض قلبه بشدة كعصفور يرغب بالتحرر من قفصه الصدري، يتجلى أمام ناظريه آخر مشهد من سقوط المطار حيث زحف اﻵلاف من جحافل الثوار نحو التحرير المقدس وأصوات التكبير تتناغم مع أصوات القذائف والتفجيرات، أما هو وقف عاجزاً لا حول له ولا قوة كشاهد عيان على مجازر لا تصفها كلمات ولا يصدقها عقل، ولولا الصوت الذي أمره بالركض لكان اﻵن مصيره مجهولاً.
عمر سعيد عشرين عاماً وأربعة أشهر وعشرة أيام، أما بالنسبة لأمه فعمره خمسة عشر عاماً من الحرمان والانتظار وعشرين عاماً من اﻷمومة البيضاء، أما بالنسبة لوالده فعمره خمسة عشر عاماً من العار وعشرين عاماً من الفقر اﻷسود.
سعيد فارع الطول محني الظهر لا لسبب خلقي هو فقط مكسور من الداخل كمن يحمل جبلاً من العار فوق كتفيه، يبدو أثناء ركضه كغصن شجرة مكسور يحركه الهواء كيفما يشاء، يركض سعيد وهو تائه في البادية ليبدأ ضميره بتأنيبه “كيف لك أن تترك رفاقك، أصدقاؤك، أخوتك خلفك؟ أنت جبان كما وصفك أباك يا جبان”، يملك سعيد ضمير حي يشعره بالمرارة كل حين.
والد سعيد رجل طيب جداً وحاله ضيق جداً جداً، أكل الدهر تضاريس وجهه، يخرج إلى اﻷرض فجراً قبل شروق الشمس منتصب القامة ثم يعود عند المغيب كشبح يمسك عاموده الفقري بيد يلوح بالعصا أمام وجه سعيد بيده الأخرى وهو يقول: “العصا لمن عصى، العصا لمن عصىى”.
يقف سعيد أمام والده وهو يحدق بذهول بحدقتين واسعتين، فوجهه الطفولي الدائري يعيد والده إلى طبعه الإنساني ليخرج من جيوبه كنوز اﻷرض من تفاح أخضر وكرز أحمر، رجل بعمر السبعين ينحت اﻷرض بمعول ورفش ويدين عاريتين ليخرج منها ثماراً بطعم المرارة والطين.
لوالد سعيد طموح كبير لابنه الوحيد، أن يكمل تعليمه العالي من ثمن اﻷرض التي يأكلون منها، لكن لسعيد طموح آخر بنكهة الكرامة والشرف والعز، أن يلتحق بالقوات المسلحة على الرغم من طبيعته المسالمة والبسيطة.
هدأت أصوات التفجيرات والرصاص وراء العاصفة الرملية، وبدأ سعيد بالمشي الثقيل كظل إنسان وهو يتذكر التحاقه الأول بالقوات المسلحة عندما صرخ قائد الفرقة بكل جدية “استااعد” لحظتها ولأول مرة منذ زمن بعيد شد سعيد كتفيه بتفان للوراء ورفع ذقنه للأعلى بثقة عالية ومشاعر الفخر تعلو وجهه، مهما حاول الوقوف باستعداد وجدية يبقى مظهره غير مبال، مثيراً للسخرية، يعيش في عالمه الخاص الجميل ذو الإيقاع البطيء، ملاحظة تلو ملاحظة يزداد غضب قائد الفرقة على سعيد إلى أن نفذ صبره في أحد الأيام ولكمه في معدته بكل قوة ليخرج الهواء كله دفعة واحدة، وبانتظاره شهقة الأوكسجين مرت الحياة أمام ناظري سعيد، حياة بسيطة مملة.
كانت طفولته كطفولة مئات قاطني الجبال دخل المدرسة الوحيدة في قريته والتي تضم كل الصفوف من الأول وحتى الشهادة الثانوية، وعدد المعلمين والمعلمات قليل بعدد أصابع اليدين ومن مختلف المحافظات، تتبدل وجوههم كل فترة لكن عددهم ثابت لا يزيد، يوجد منهم معلمة حاقدة بطبعها غاضبة على وضعها وغير راضية عن مكان عملها، كانت تبتسم نصف ابتسامة وتقول: “قالوا القرود تسكن الجبال، لكني لم أر واحداً منها سواكم”. وتضحك ملء فمها ليضحكوا الأطفال من بعدها على نكتة لم يفهموا معناها يوماً، مع تقدمهم في العمر أصبحوا مراهقين ويضحكون على نفس النكتة إلا فؤاد صديق سعيد المقرب، لم يضحك منذ بدأ عمله في المدينة صيفاً، سنة تلو سنة يصبح فؤاد أقوى أصلب أدهى.
فؤاد و سعيد وجهان لنفس الحياة في نفس العمر لكن بظروف مختلفة فحياة فؤاد أكثر غنى من حياة سعيد منذ أن قرر والداه قطع حبل الخوف وإرساله للعمل في المدينة، ليعود آخر الصيف إنساناً أنضج قادر على تحمل المسؤولية وذو مال أوفر، على عكس والدا سعيد الذين لم يتجاوزا حاجز الخوف يوماً و قررا عدم المخاطرة بأي شكل من الأشكال ففكرة فقدان ابنهم الوحيد تقودهما للجنون .
كان فؤاد شخصاً عملياً هدفه السلطة فهو يرى الأمور من منظور أوسع أما مشاعرالفخر لم يشعر بها كما شعر سعيد، وخلال أشهر الحصار والتجويع كان يهمس فؤاد في أذنه ليلاً أشم رائحة خيانة يا “سعيد ” أما سعيد فكانت رائحة الحطب وخبز التنور تسكن أنفه، لينام قرير العين مطمئن القلب و هو على يقين بأن المساعدة قادمة لا محالة.
يوم اثنان ثلاثة وسعيد يمشي هنا وهناك، كفأر تائه يدور في حلقة مفرغة نهاراً تلسعه الشمس بسياط أشعتها الحارة وليلاً يطعنه الهواء القارس في خاصرته بسكاكين باردة، لا أمل يلوح في الأفق باستثناء الغبار وسراب المياه، إلى أن رأى سعيد إنساناً يقترب من بعيد، بني آدم بحجم و طول فؤاد، يهرول سعيد ثم يركض ثم يصرخ “فؤاد آه يا فؤاد .. لازالت على قيد الحياة”، يفتح سعيد ذارعيه الطويلتين وهو يضحك، يقترب أكثر فأكثر ليبدو فؤاد بهياً شامخاً كعادته وبحال جيدة كأنه لم يتعرض لأي أذى، يركض سعيد أسرع أسرع وبهجة الأمل تعلو وجهه، يضم ذراعيه في اللحظة المناسبة ليحتضن نفسه ويسقط على أرض بقوة ويملأ فمه بالتراب، سقوط قوي يوقظه من الوهم ويرجعه للواقع. إن فؤاد الذي صرخ في الوقت المناسب “اركض يا سعيد اركض” غالباً لم ينجح في النجاة من براثن الموت الأسود .
يئن سعيد تحت حرارة الشمس في اليوم الرابع، وهو يعاني من الجوع والعطش فيبدو كهيكل عظمي يكسوه جلد بشري، مركز المشاعر لدى سعيد معدته عندما يشعر بالحب ترقص الفراشات فيها، وعندما يشعر بالغضب تتقلص لتصبح بحجم حبة الكرز، وكل ما يشعر به الآن هو الوحدة و الخوف، وكل ما يرغبه في هذه اللحظة هو البكاء” يا رب أريد البكاء .. يا الله ولو دمعة واحدة”، وهو يحاول تذكر الذنب الذي اقترفه ليستحق هذا العذاب وهنا تمكنت هلوسات التجفاف من عقله، فزارته الأشباح البشر، فرأى أمه تبكي وأبيه صامتاً وآخرين يتمتمون فوق رأسه أشخاص يعرفهم وآخرين لم يرهم قط.
تمتد يدي أحد الأشباح المزعجين إلى جيوبه وكأنها تبحث عن شيء ما لكن الأشباح لا ظل لها، فتح سعيد عينيه بما ملك من قوة ليرى رجل ضخم ذو لحية وشعر قصير يقف فوق رأسه كقديس يحمل بطاقته الشخصية ويقول:
“سعيد يا سعيد إنه يوم سعدك يا سعيد”.
نكتة مقيتة لم تكن صادقة يوماً ليغيب بعدها عن الوعي.
جاء المخلص على هيئة رجل من أهل العشائر حمل سعيد على كتفه إلى خيمته حيث الظل والماء والكثير من اللبن والحليب الدسم، لكن اطعام وإجبار أحدهم على شرب الماء وهو على حافة الموت أمر مجهد متعب مضني، لا بأس من المحاولة طالما سعيد يتنفس و قلبه ينبض والإيمان بالحياة موجود، يومان وعاد الوعي إلى سعيد الذي نهض كالمجنون ركض ثم سقط ثم مرت لحظات حتى استوعب ما يجري وأن مرحلة الخطر عدت بأمان، أمان لم يشعر به سعيد منذ أيام، وأيقن وجود رجال نساء وأطفال طيبون جداً شجعان جدا جداً، خاطروا بحياتهم ليحموا حياة غريب عنه.
أعادوا الثقة إلى نفس سعيد الذي رأى الموت بعينيه، عاشر شهامة أهل البادية واحتمى بهم من غدر راية سوداء لم تشبههم يوماً.
خاص مجلة قلم رصاص الثقافية