قصي أسعد |
ذات مرة قرأت حكمة قصيرة في كتاب لا أذكر اسمه تقول، عندما يسأل المرء نفسه “هل أنا سعيد” غالبًا ما يكون ليس كذلك لأن السعداء ليس لديهم الوقت لطرح هذا السؤال.
والحقيقة أنه في وقتنا الحالي، قد يكون الشك فيما إن كنا سعداء أم لا حالة من الرفاهية، وربما السؤال السائد بين السوريين هذه الأيام والذي يدور حوله الشك.. هل نحن مكتئبون أم لا؟
ورغم أن عددًا كبيرًا منهم تخلوا عن هذه الدراما المفرطة في الحنين إلى البلد والبعض الآخر منهم يسخر دائمًا من رغبة الآخرين بالعودة للوطن، ويرون بأن مأواهم هناك في بلاد اللجوء أفضل حالًا، إلا أن جلهم يعيش دراميته في اللاوعي ويفكر كل يوم لماذا أنا موجود هنا ؟
وأعتقد أن أخطر ما يلازم السوريين حاليًا عقدة الرغبة في التميز التي تهيمن على عقولهم، الرغبة في إحداث “شوك” صدمة، ويمكن إرجاع هذه الرغبة لعقد نقص، بمعنى أنا لاجئ لكن قوي، لكن ذكي لكن خارق إلخ..
وقد يرى البعض هذا جيدًا للوهلة الأولى، بأن يتوق السوريون إلى التميز وبالتالي نرى موهوبين سوريين حول العالم، وأنا لست ضدهم بطبيعة الحال، ولكن معظم هؤلاء لا يعيشون حياة طبيعية، ومعظمهم مصابون بحالات اكتئاب مزمنة، ويفتقدون لشيء مهم جدًا وهو “الرضا”.
الحقيقة بأن هؤلاء المتميزين ذاتهم لا يشعرون بالرضا حقيقة وسعاداتهم حالة مؤقتة تنطفئ تدريجيًا عندما تخفت أصوات التصفيق، وهم -أي المتميزون- لا يتجاوزون الواحد من 99 بالمئة ممن يشعرون بأنهم لم يحققوا طموحاتهم بعد، هذه الطموحات تتجاوز طبعًا قدراتهم وظروف حياتهم.
تحقيق النجاحات، يحتاج لجهد كبير وقدرات عالية، ولكن يبدو أننا أغلبنا غير مقتنعين بما نحن عليه.
وهذا ما يبرر بطبيعة الحال، ارتفاع حالات الطلاق التي تتقدم بها سيدات سوريات في أوروبا، فهن غير راضيات بعد الآن عن أزواجهن، وطموحاتهن ارتفعت وبتن يبحثن عن شيء أكثر تميزا وأنا لست ضدهن، أنا فقط أحاول أن أشرح لماذا تبدو أغلب هؤلاء السيدات كئيبات.
أظن أن بقاء والدي موظفًا لمدة ثلاثين سنة بمرتب سقفه معروف، فيه كثير من الرضا، وعليه يستطيع أن يعيش حياته بهدوء وقد يكون هذا مناسبًا لموظف حكومي، وأنا هنا لا أثني في حديثي هذا على من لديه طموح بأن يحقق شيئًا أعظم ولكن أحاول أن أرحم هؤلاء الثائرين على كل شيء هؤلاء الذين ينهكون أنفسهم بالبحث عن الكنز المفقود.
المعضلة الحقيقية بأفكار هؤلاء، ظنهم بأن السعادة وليدة حفلات التكريم أو الحصول على الكنز المفقود، وهذا ما أراد الكاتب البرازيلي باولو كويلو توضيحه في روايته “الخيميائي” بأن الكنز الحقيقي الذي حصل عليه الراعي بطل الرواية كان حالة السعي والتخطيط واللذة في اكتشاف قدراته هذه الحالة هي التي أضافت له الحكمة وأوصلته لشعور السعادة عبر رحلته الطويلة ولم يكن “الشوك” الصدمة والذي يتمثل بحصول الراعي على أحجار الذهب هو الكنز الحقيقي بالنسبة له.
ومن المؤكد بأن الأشياء العظيمة ندرك عظمتها بمقدار جهدنا بالحصول عليها، وما يأتينا بالصدفة أو ربما أن نعيش حياتنا بالصدفة دون تخطيط أو اجتهاد هو من يبعث فينا الكآبة بالدرجة الأولى، والإعالة المالية التي تعطيها الدول الأوروبية للاجئين هي مثال جيد لهذه الحالة.
وما لفت انتباهي في هذا الموضوع تعرض محمود درويش في إحدى قصائده لفكرة فلسفية بالغة الأهمية حول حالة التهميش التي عاشها ونعيشها نحن السوريين بطبيعة الحال كما عاشها درويش ولكن بشكل أشد قساوة، عندما كتب قصيدته لاعب النرد فيبدأ قصيدته متسائلاً “من أنا لا أقول لكم ما أقول لكم” وكأنه هنا يوضح لنا حالة الاستسلام التي يعيشها بعد أن فقد السيطرة في إدارة شؤونه وأرجع كل مراحل حياته للصدفة..كنجاته من الموت “نجوتُ مصادفةً: كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ”..
وعلاقاته العاطفية ” كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي سألتني: كمِ الساعةُ الآنَ؟ لو لم أَكن في طريقي إلى السينما”. ومهارته في كتابة القصائد”لا دَوْرَ لي في القصيدة غيرُ امتثالي لإيقاعها”.
كل شيء في حياة محمود درويش يعود للصدفة، ويمكن القول بعد أن قتل أكثر من مليون سوري، لا يمكن النظر إلى حياتنا ونجاتنا من هذا الموت الكبير إلا محض صدفة ونجاتنا من غرق البلم أثناء الرحلة غير الشرعية محض صدفة وأيضًا إقامتنا في أوروبا أو مصر أو تركيا كان محض صدفة لم يكن ذلك بتخطيط أو إرادة منا، إذن نحن نعيش كما عاش درويش بالصدفة البحتة، لم نختر المجتمعات التي فُرض علينا أن نندمج معها، ولم نسكن بالمنازل التي نريدها، نحن نعيش حياتنا في حالة مؤقتة ونخطط ليوم الغد ولآخر الأسبوع كحد أقصى ولهذا فإننا غارقون بالبحث عن الكنز المفقود هذا الكنز الذي اكتشف الراعي في رواية الخيميائي أنه شيء واهم بينما الكنز الحقيقي كان شيئًا آخر.
ويمكن أن ننظر إلى حياتنا الآن على أنها عبارة عن مجموعة من الصدف وهو سبب كاف ليسأل كل منا نفسه في كل يوم هل أنا مكتئب؟
خاص مجلة قلم رصاص الثقافية