د. رؤى قداح |
مرّتْ سنواتٌ، وكلانا ثابتٌ في مكانهِ، متمترسٌ خلفَ منبرهِ، لا يتزحزحُ، نتعاركُ، كلمةً، معنًى، ولا شيءَ آخرَ، لا فعلَ، لا فعل…
قالَ: “ومازالَ ذاكَ القمرُ المكتملُ يتشهّى جسداً حرّاً، يتمددُ على شرفةِ العتمةِ ليرتّلَ لمسامهِ نشيدَ الغَوايةِ”…
قلتُ: “ليس يستهويني قمرٌ عاطلُ الرّوحِ، عابثُ الأناملِ، ينتهكُ أجسادَ الغوايةِ عجزاً وصمتاً”….
قالَ: “نيتشه”..
قلتُ: “هيغل”..
قال: “هو الجسدُ”…
قلتُ: “بل هو العقلُ”..
قال: “في البدءِ كان الحبُّ”…
قلتُ: “في البدءِ كانتِ المعرفةُ”….
قالَ: “فلتكنِ الشعريّةُ فضاءَنا”…
قلتُ: “فلتكنِ الشرعيّةُ حصنَنا”….
قالَ: “ضيّقُ الخلقِ أنا، قد مللتُ، فماذا بعدُ؟”…
قلتُ: “ومثلُكَ أنا، وقد مللتُ، فلا قبلُ، ولا بعدُ”…
قالَ: “أمَةُ الورقِ الشرعيِّ أنتِ”…
قلتُ: “نعم، وأدركُ أنكَ عرّابُهما، ومستبدٌ بهما؛ ربُّ الشعريّةِ أنتَ وقتَ تشاءُ، وأنا في فضاءِ رضاكَ حبيبةٌ موشّاةٌ بالقصائدِ، وفي سردابها أنا مومسٌ بلا شفاهٍ، تلوكُ القُبلَ عطشاً، تغتصبُ ما ليسَ لها، وتُرمى على قارعةِ الشّعريّةِ أشلاءَ قصيدة. وقلمُ الشّرعيّةِ أنتَ وقتَ تشاءُ، وأنا في حرملككَ وظيفةٌ خُطّتْ على عجلٍ، ألفٌ تتبعُها ياؤها، تحرقُها، وأنا بينهما موضوعٌ مُغيّبٌ، نشوةٌ حرامٌ، ورفضٌ حرامٌ، وعاءُ بردٍ ونسلٍ مقدّسٍ، بلا ملامحَ محجوبٌ عن الناظرين، وفي زوايا العتمةِ ثمّة أخرى، هي من ليسَ أنا، هي من لا يحقُّ لي أن أكونَ، وجهيَ الآخرُ المنتهكُ بكَ، وأنا وهي في عرفِ سيادتكَ سواء”….
قال: “فهو وداعٌ”…. قلت: “ولا لقاءَ بعده”……
*************
ورقٌ، ورقٌ، أسماء خُطّتْ على ورقٍ،،، وأنا أقبعُ في قاعِ الحمرةِ، أزركشُ فراشَهُ القدسيَّ بفساتيني، أكونُ كما شاءَني أن تقنِصُ عينيهِ شبقاً، جسداً يتلوّى، ينفضُ الألوانَ نشوةً وبغاءً حلالاً،، غزالةً، تبلّلُ شرشفَ الخضرةِ بماءِ الحياءِ، تلوذُ بظلالِ العتمةِ خجلاً، وجلاً، ينسلُّ لهيباً يلفُّها فتجفلُ، ينتهكُ السحرَ الغافيَ خلفَ الأيكِ، فتستكينُ له رضاً وتسليما…. وكنتُ أقبضُ على نبضِ الوقتِ، وأخشى أنْ يتفلّتَ منّي، وتبهتَ في لياليهِ الألفِ الحكايةُ. وكنتُ أرويني حكايتَهُ، جسداً، معنًى بلا لسانٍ، بلا كلماتٍ، بلا ذاتٍ، وجزعاً كنتُ أترصّدُ اشتهاءَهُ في سقفِ المكانِ، وكي يشهقَ ويشهقَ كنتُ بلا شغفٍ، بلا نشوةٍ، بلا غيابٍ عنهُ وعنّي أفنيني… وكانَ ذاكَ الفحلُ في غفلةٍ من حكاياتيَ الخرساءِ يكتبُني، يؤرّخُني ويطويني صفحةً صفحةً حدَّ المللِ، حدَّ النهايةِ….. وفي صباحاتِ الرّمادِ، أنا في القاعِ وحدي، جسدٌ عارٍ منّي، بلا تاريخٍ، بلا كلماتٍ، بلا حكايةٍ، أرمقُني في مرآةِ الوحدةِ، وأراني بئراً أجوفَ بلا لسانٍ. أمدُّ يدي في عمقِ جوفي، أفتّشُ عن لساني، وأجزعُ، فأنا في الجوفِ هناكَ معنًى بلا لسانٍ،،، والمكانُ مفرغٌ منّي، ولا شيءَ إلا عبقُ جسدي وعرقي الباردُ الّلزجُ وفساتيني،، ورائحةُ طعامٍ محروقٍ تملأُ المكانَ،،، وصراخهُ الغاضبُ يحطّمُ بقايا ما تبقّى منّي، ويمحو أسماء، محضَ أسماء خُطّتْ على ورقٍ..
************
والتقينا…. مطَّ شفتيهِ الرقيقتين شماتةً، واغتصبَ كلّيَ بعينيهِ المنتصرتين،،، قالَ: “فماذا بعدُ، وقد جرّبتِ الشرعيّةَ يا صديقتي؟ … قنصتُ ابتسامتي من جوفيَ المرِّ، وقلتُ هازئةً: لا شيءَ بعدُ، فشرعيّتهُ وشعريّتكَ سواءٌ، قد مزّقني اسماً خُطَّ على ورقٍ، نعم، وقبلَهُ رميتني على قارعةِ شعريّتكَ أشلاءَ قصيدةٍ، حينَ رفضتُ أنْ يعتصرَني عجزُكَ في زوايا عتمتِكَ… كلاكما يثبّتُني معنًى بلا مدى وقتَ يشاءُ، ويذروني صدًى، يمحوني كلمةً كلمةً وقتَ يشاءُ،، وأنا الآنَ حرّةٌ منكما، متلبّسةٌ بي، أقبضُ على لساني، أمتشقُ صوتيَ، أنتشي بصداه، أحكيني حكايتي، فما عدتُ، ما عدتُ لكما تلكَ الحكايةُ المفوّتة..
أكاديمية سورية | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية