-“ستشتاقُ إليّ؟”، سألتْ سلمى بصوت متهدّج.
-“ليس مهمّاً”، أجاب آدم مصطنعاً اللؤم والتماسك، دون أن يتمكن من النظر في عينيها.
-” سأشتاقُ إليكَ في كل ثانية.”
-“هذا شأنكِ.”، ردّ بنفس النبرة وهمّ بالمغادرة. شعرَ أنْ ليسَ بإمكانه البقاء لدقيقةٍ أخرى. غادرَ هكذا دون أن ينظر إليها، دون أن يتحسّس وجهها كما اعتادَ أن يفعل، دون قبلةٍ أخيرة.. لطالما كانت الميلودراما تسبّبُ له الغثيان.
في الطريق تفقّد هاتفه 37 مرّة ليرى إن كانت قد اتّصلتْ، أو أرسلتْ رسالةً ما، أو فعلتْ أي هراءٍ يمكن فعله بهذا الشيء اللعين. لكنّها لم تكن قد فعلتْ شيئاً.
– ” أيّها المهووس البائس.” قرّعَ نفسه و أعطى وعداً أنّه لن ينظر للهاتف مرّة أخرى قبل مرور 10 دقائق.
فكّر بطريقة يمضي بها الوقت لإلهاء نفسه عن التفكير فيها وبكونها هجرتهُ لتوّها، الخيارات لا تتعدّى الذهاب للقاءِ بعض الأصدقاء، أو تعاطي الكحول، أو ربّما مضاجعة سريعة معفاة من الأحاسيس والعواقب ( هناك بضعة أرقام في هاتفه تخدم هذا الاحتمال ). لم يعجبه شيءٌ من ذلك، خطرَ بباله فقط أنّه كان من الأفضل له أن يكون عالماً عبقريّاً أو ما شابه. لو أنّه كذلك لعاد في هذه اللحظة بالذات إلى مختبره واخترع جهازاً رائعاً يجعلها تفكّر كالبشر وتتكّلّم مثلهم وتصبح طبيعيةً بالعموم، و إن عجزَ عن ذلك سيقوم الجهاز بتفجير رأسها العفن بلحظة واحدة، كلّ ذلك بالتحكم عن بعد طبعاً فهو لا يريد التورّط في أيّة مشاكل.
نظر إلى هاتفه.. لا شيء. كانت قد مرّت ثلاث دقائق.
بطبيعة الحال قادته قدماه إلى المنزل، تناولَ من البرّاد – الفارغ إلّا من البيرة – زجاجة وتهالك على الأريكة أمام التلفزيون. ولم يستطع منع نفسه من التفكير فيها:
-“يجدرُ بها أن تكون إلى جانبي الآن.. الحمقاء اللعينة!!”. حدّث نفسه. “تريدُ المغادرة، فهي تشعرُ أنّها عالقةٌ معكَ في اللاشيء.. لم يبقَ لدى أحدنا ما يقدّمه للآخر، و لا بدّ أن في الحياة خيارات أخرى.”
” نعم، بالتأكيد! لا بدّ أنّ هذا الخراء المحيط بنا مليءٌ بالخيارات الرائعة. ومن أكون لأقف في وجه الأحلام الكبيرة الخرائية؟” استمر في الحديث مع نفسه ومعها افتراضياً.
تذكّر دعابة أميركية كان قد قرأها في مكان، مفادها بما معناه: يمكنكَ أن تنتشل المرأة من مستنقعٍ للتماسيح، يمكنكَ أن تعلّمها القراءة و الكتابة، ربّما تعالجها من السكّري أو حتى السرطان. لكن سيحدث حتماً أن تأتي لحظة و تقول لك: (( لو لم أكن معك لكنتُ منذ زمنٍ طويل زوجة جنرالٍ مرموق، و لا بدّ أني سأكون قد أنجبتً له حتى الآن ثلاثة أطفال رائعين)).
اعتاد أن يضحك كلما تذكّر هذه الدعابة، لكنّه أحسّها مؤلمةً تماماً هذه المرة.
أحسّ بتعبٍ شديد وصداع مزعج، أغمض عينيه وبدأ يفركهما بأصابعه. ربّما غفا لبضعة دقائق لا أكثر، قبل أن يفتح عينيه فيما يشبه اللهفة الممزوجة بالذعر. كان واثقاّ أنّه شمّ رائحتها.
-هل يعقل أن تكون قد جاءت؟؟ ليست هنا بالتأكيد. نظرَ إلى الهاتف، لا شيء مجدّداً.
يبدو أن دماغه اللعين المهووس بها حرّض ذاكرة الشمّ لديه ليرسل ذكرى رائحتها إلى أنفه. بالنسبة له لطالما كانت رائحتها لعنةً قائمة بذاتها. كان مولعاً بتلك الرائحة، وكمدمنٍ على الممنوعات كان يتشمّم جسدها بالكامل إن كانا في السرير، ويكتفي بشمّ رقبتها إن كانا في الخارج. الحديث هنا طبعاً عن رائحتها الخام، تلك المنبعثة من مسام جلدها، من البشرة البيضاء شديدة النعومة، الملساء لدرجة يتعذّر معها التصديق أنّها تحتوي على مسام أصلاً.
-“لا تضعي عطراً أبداً.. الخطيئة هي أن تختلط رائحتك بأي شيء.”كانت تنتشي حين يقول ذلك. كان يكمل : “إنّها الرّائحة الكفيلة بإخراج المارد من قمقمه.” هنا كانت تستسلم تماماً، وتستلقي على الغيم، وتغمض عينيها لترى نفسها الأميرة التي ظهر لها المارد ليقول: “شبّيكِ لبّيكِ.. اطلبي وتمنّي”. في الوقت الذي يكون مارده قد خرج بالفعل من قمقمه ليقوم بما عليه القيام به.
-“ماذا الآن؟.” سأل نفسه وقد تأكّد أن النوم طار تماماً من عينيه لما تبقّى من هذه الليلة. خطر بباله أنّها في هذه اللحظة بالذات مستغرقةٌ في نوم عميق بدون كوابيس أو حتى أحلام سعيدة. شعرَ بالتمزّق من كونها لا مبالية إلى هذا الحدّ، وأنّ هذه ليست سوى البداية. لامبالاتها ستتراكم لتصبح نمط حياة، و وحدته و أريكته الفارغة إلّا من جسده القبيح سيدفعان به قريباً جدّاً إلى الجنون المؤكّد. لم يتحمّل مجرّد التفكير بالأمر على هذا النحو. أمسك الهاتف و طلب رقمها، رماه باتجاه الحائط بقوة قبل أن يتم الاتصال. تجاهل القطع التي تبعثرت في أرجاء الغرفة وذهب باتجاه البرّاد، فتح زجاجة أخرى و أخذ جرعة كبيرة.
-“اِبعثْ الحياة في علاقةٍ قديمة. ذلك ممكن، كما أنّه سيكون إلهاءً ممتازاً”. لمعتْ الفكرة في رأسه، تماماً كما لمعتْ في رأس آينشتاين فكرة النسبيّة.
بدأ باستعراض الاحتمالات في ذهنه، لكن الاستبعاد كان يحدث في لحظة دون سبب محدّد، فقط لم يستطع أنْ يتخيّل أنّه يتحدّث مع إحداهنّ مرّة أخرى، وحين بدأ يشعر باليأس تذكّر نايا.. خيار ممتاز! ليس لسبب سوى أنّها فارعة الطول. ولطالما كان يقول على سبيل ما يظنّ أنّه خفّة دم : (( أنا أغفر للطويلة كل مصائبها مهما كانت)).
أنهى البيرة بجرعة كبيرة أخرى، و قام ليجمع قطع الهاتف المتناثرة. سيحدّثها الآن بالذات، فمن يدري؟ ربّما تنتهي هذه الليلة بطريقة ممتازة.
بعد عذاب طويل وجد القطع كلّها، ركّبها بصعوبة، واشتغل الهاتف في نهاية الأمر. طلبَ الرقم و مرّة أخرى قطع الاتصال قبل أن يتم.
-” ماذا تفعل بحق الجحيم؟؟ “سأل نفسه بدهشة. -“فكرتك العبقرية ستجعلك الغريق الذي حاول أن يتعلق بقشّة، ومن بين كل القشّ في العالم، لم يحلو له التعلّق سوى بالقشّة التي قصمت ظهر البعير.. هنيئاً لك أفكارك الألمعيّة”.
-“لا بدّ من التفكير خارج الصندوق”. تابعَ البحث عن حلٍّ لهذه اللعنة المعنّدة، متذكّراً كم كان بارعاً في هذا النوع من التفكير. قبل أن ينتبه أنّها وفي غفلةٍ منه أصبحتْ هي الصندوق وغطاؤه وقفله ومفتاحه، وهو عالقٌ تماماً في الداخل.
-“الحل إذاً يكمنُ في المشكلة نفسها.. (الخروج منها هي الكلمة المفتاح)”.
ارتاح للبساطة التي يمكن بها التعبير عن الأمر، محاولاً تجاهل معرفته التامة أنّ ما لديه تجاهها تجاوز الحب وأعراضه المعروفة، ودخل منذ زمن بعيد في نفق الهوس بجدارة.
استجمعَ شجاعته الخائرة، وقرّر اعتماد هذه الطريقة.. -” تذكّر.. هذا ما أرادته هي في الأساس”. أضافَ لمسةً من الحقد على عزمه الجديد. ولتكتملَ الصورة في رأسه، ذكّرَ نفسه أخيراً بمقولة هنري الثامن الشهيرة وهو على فراش الموت: (كنتُ لأغزو أوروبا كلها.. لكن كان هناك نساءٌ في حياتي.).
-” فليذهبنَ إلى الجحيم جميعاً، وهي بالطبع على رأس القائمة.. ربّما لن أتمكّن من غزو أوروبا، لكن بالتأكيد لا أريدُ أن يكون شيءٌ من هذا القبيل آخر أقوالي و أنا على فراش الموت”.
لم يكن يعرف أن شحذَ الهمم يجعل الوقت يمرّ بسرعة، فقد لاحظَ أن ضوء النهار يملأ المكان، أحبَّ ذلك. وعندما بدأ يفكّر ماذا سيفعل في أوّل يوم من حياته الجديدة.. عندها تماماً رنّ الهاتف رنّة خافتة قصيرة. غريبٌ ما يمكن لصوت تافه كرنّة هاتف أن يفعل! يبدو أنّه في ظروف مناسبة قادرٌ على الإطاحة برؤوس كبيرة وقرارات مصيرية. قفز آدم بحثاً عن الهاتف كمن عضّه الكلب في مؤخرّته، متضرّعاً لكلّ أنواع الآلهة والقدّيسين والأولياء و الشياطين أن تكونَ سلمى هي المتّصلة.. لم تذهب صلواته سدىً. كانت الرسالة منها : “سأكون في المقهى خلال نصف ساعة.. لا تتأخر، اشتقتلك.”
-” لن تكون النهايات السعيدة موضةً بائدةً أبداً.. تحيا هوليوود!!
فلتنتظرْ الحياة الجديدة لوقتٍ آخر.” قال آدم بسعادة.. مؤجّلاً.. معتنقاً هوسه ليوم آخر.
مجلة قلم رصاص الثقافية