“أبحث في معجم الشفاه عن صوتي، فلا أجد سوى أفواه ميتة، وهي تحتضن أسنان نخرها الجوع، أبحث عن ظل ثابت تحت رايات أضاعت جهة الصواب، فموسم البؤس لن يُبقي حتى علا نظافة الوجوه”.
هذا جزء من نص بعنوان: “شمس منتصف الليل” للشاعر العراقي وسام علي ابن بلاد الرافدين المشبعة بالألم، والمثخنة بالجراح، هذا الألم الذي خلّف في قلوب العراقيين نُدباً لم يكن الزمن كفيلاً بمحوها، فترجمها أبناء القهر نصوصاً كتبوها بدمائهم التي تُراق فتسقي نخيل العراق، وتوثق كل هذا الموت والدمار الذي حل بالعراق، وتدفعنا للقاء الشاعر في حوار صحفي هذا نصه.
ـ من أنت؟
وسام علي، من مواليد محافظة بابل عام 1990, أكتب منذ عدة سنوات، ولدي كتاب مطبوع بعنوان “موتغرافيا”، إضافة إلى عدة مشاركات في انطولوجيات شعرية, تُرجمت بعض النصوص إلى الإيطالية والإنكليزية، فقط لا أكثر.
ـ لماذا تكتب؟
أكتب ربما لأنني في يوم مقتل والدي بانفجار سيارة مفخخة، لم أبكِ وقضيت اليوم كله أشبه بمانيكان عاري في محل ملابس مفلس، هذا السبب جعل كل نصوصي هي تعويض عن الصراخ المفترض في ذلك اليوم.
ـ بمن تأثرت من الشعراء؟
لا أحد.
ـ شهدت دول المنطقة انفتاحاً ثقافياً وإعلامياً، وانتشرت مئات الوسائل الإعلامية العامة والمتخصصة على عكس العقود السابقة إلا أن ذلك لم يسهم بتكريس أدب حقيقي إلا ما ندر، لماذا برأيك؟
لأن الأدب الحقيقي لا يصنعه الإعلام، الوسائل الإعلامية تحتفي وتصنع فقاعات سرعان ما تنفجر ذواتها وتنتهي، ثم تنسى، فلم يعد الأدب الحقيقي مقتصراً على طرح الأسئلة لأن الجميع أصبحوا يعرفون الأسئلة وأجوبتها.
ـ صار بوسع أي شخص اليوم تقديم نفسه على أنه شاعر وكاتب وصحفي وغيرها من الألقاب المجانية، ما سبب تفشي هذه الحمى؟
لأن كل شخص يعتقد أنه مسؤول عن تغيير هذا الانحطاط الذي نمر به ولكن أصحاب هذه الألقاب هم جزء من هذا الترهل والفوضى، فكل “عربي” كاتب أو شاعر يتصور نفسه إلها أو ذو منزلة رفيعة بين هذه الهوامش المحيطة به، كلنا لدينا شيء لنقوله فلنتكلم ببعض الهدوء فثرثرة الألقاب تجعل “إبداعاتهم” في هوامش الأحاديث.
ـ كيف يُمكن الفرز بين الشاعر و”الشويعر” وبين الشعر و”صف الحكي” في ظل هذا الانفلات؟
أولاً المعرفة، فالشاعر بدون معرفة لن يكون حتى “شويعر”، وثانياً هناك شيء أشبه بالغربال يطرد كل شخص صغير على مقاس هذا المخاض، أما الشعر فهو كل لكمة يشعر بها القارئ عند قراءته، وصف الحكي هو كل ما يتماهى مع هذا الانفلات الذي تتحدث عنه.
ـ تأسست مؤسسات وجمعيات( ثقافية) كثيرة إلا أنها لم تقدم نتاجاً يستحق الوقوف عنده، لماذا؟؟
لأنه من الطبيعي أن تكون المؤسسة خاضعة لسلطة ما، اقتصادية أو سياسية – إيدلوجية، وبالتالي لن تكون هناك حرية بطرح نتاجات يمكن أن يقال عنها إبداعية أو تستحق الوقوف عندها، فالطبيعي في كل العالم هو ممنوع في العالم العربي.
ـ يستضيف مهرجان المربد عشرات الوجوه سنوياً من مختلف الدول، برأيك هل ساهم المهرجان في تقديم الصورة الحقيقية للمثقف العراقي خصوصاً والعربي عموماً؟
كل المهرجانات بصورة عامة لم تعد تقدم شيئاً جديداً، فهي تمر برتابة وبدون أي ناتج أو ظهور لتجربة جديدة، فهي حكر على أصدقاء القائمين عليه ومدى علاقتك بهم، أما الصورة الحقيقية للمثقف فهي أبعد ما يكون عن البذخ الإشهاري للمنصة.
ـ كل من يصادفنا هم الشعراء والكتاب ولسنا نرى النقاد، أين الناقد الأدبي اليوم؟
الموضوع شائك ومعقد، فالناقد يعاني أولاً من تهميش إعلامي حتى أن بعض النقاد أصبحوا شعراءً، كوظيفة إضافية، ثم أن النقد يعاني من الضعف والتأخر بعض الشيء، فلا يوجد ناقد تجاوز عتبة المقدس في النص الحديث، الأمر يشبه المحافظة على سوق الطلب، النقد إبداع أيضاً في إطاره الأكاديمي لا تكرار لتجارب السابقين.
ـ أنت أحد الأعضاء المؤسسين لميليشيا الثقافة في العراق، أين وصل مشروعكم اليوم، وماذا أنجزتم؟
مشروعنا مازال مستمراً، ونحن نعد لشيء جديد ومغاير عن السابق، وأنجزنا الكثير فيكفي أننا أول من حطم فكرة المنصة وقراءة الشعر للشعراء، وأخر عمل أنجز كان (إيموت…) وهو إدانة للحملة الواسعة التي تمت بها تصفية كبير من الشباب (الإيمو)، أنجز العمل مع الأصدقاء أحمد ضياء وعلي تاج الدين وعلي سرمد ومحمد الكيم والمسرحي حسن الغبيني.
ـ تفوح رائحة البارود والموت من نصوص الشعراء العراقيين، هل تعتقد أن المستقبل القريب سيحمل نصوصاً للفرح؟
الحزن ثيمة محببة للعراقيين ولكن هذا ليس سبباً للكتابة بهذا النمط والذي كتب قليل جداً عن الذي حدث في العراق، أما في المستقبل فلا أعتقد أنه سيكون مفرحاً فالنفق المضيء تم تفجيره بعبوة ناسفة، والأموال التي رصدت لصيانته قد سرقت .
ـ يرى البعض في الحرية دافعاً للكتابة الاستبداد دافعاً أكبر للإبداع، ما رأيك أنت؟
ليس الاستبداد بل القلق الذي يجب أن تعيشه، الكثير من المثقفين العراقيين المغتربين لم يقدموا شيئاً مثل الذي قدموه عندما كانوا وسط حرب الثمانينات أو حصار التسعينات أو فترة التصفيات الطائفية، الحرية جو مناسب للإبداع ولكن ليس للذي نضج وسط قلق العراق، فهناك شعراء رفضوا مغادرة العراق للمحافظة على ما كتبوا.
ـ شعراء البلاط مصطلح قديم، قدم الشعر والسلطة، وهناك شعراء ثاروا على السلطة، أيهما كان أكثر تاثيراً في الشارع على مر العصور؟
المتنبي كان من شعراء البلاط وأبو نؤاس ثار على كل شيء، ولكن الذي بقي هو قوة الشعر والمصداقية التي قدموها، الشارع يتأثر ببساطة الجمال.
ـ هل من تأثير فعلي للمثقف العراقي فيما يشهده العراق من اضطرابات وتوترات؟
إذا تخلص من إيدلوجيته سيكون مؤثراً، وهذا ما يحصل، ولكن بنسب خجلة بحيث يكون تأثيره لا يحتسب ولا يرى، فما يشهده العراق من قرف هو بسبب الإيدولوجيات التي تتحكم بمصائر أجيال سابقة وقادمة، وبالتالي لا يمكن أن نكون ضمن هذه القطعان من الخانعين للسلطات باختلاف أشكالها.
صحفي وكاتب سوري | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية