لكل مدينة فرسانها، وفرسان مدينة الرقة تسلحوا بالثقافة والأدب، وطوعوا المناخ الرقي الصحراوي، وفرضوا وجودهم في المعترك الثقافي ليس على المستوى المحلي وحسب، إنما على المستوى العربي أيضاً، فصاروا سفراء لتلك المدينة المنسية البعيدة عن مركز القرار، ونجحوا في وضعها على الخارطة الثقافية، وكان من بين سفراء الرقة الشاعر الدكتور إبراهيم الجرادي الذي رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة.
حين كان لدينا مدينة اسمها الرقة، وكان لها من اسمها نصيب، تعرفت الشاعر الراحل د. إبراهيم الجرادي الذي احتفت به مدينته حين كانت تُقيم المهرجانات الثقافية احتفاءً بالرواية والشعر والقصة والفن التشكيلي والمسرح، وقد تسنى لي في وقت سابق قراءة بعض نتاج الجرادي، لكنه كان كان خارج نطاقنا الجغرافي في تلك الفترة، إلى أن دُعي إلى مدينته مُكرماً في الدورة الرابعة لمهرجان الشعر العربي عام 2008، وكان ذاك لقائي الأول مع الشاعر الذي نقلتني تجربته الشعرية إلى عوالم كانت مجهولة بالنسبة لي حينها، وتعرفت إليها من خلال قراءة منجزه الشعري مُبكراً .
غادر الجرادي مودعاً الرقة التي ظلت مؤنسته في حله وترحاله رغم الأسى المُبكر الذي ترك أثره في نفس الجرادي الفتى، وانعكس لاحقاً على نتاج الجرادي الشاعر. إلا أنه ترك بحضوره البهي أثراً بارزاً في نفوس الرقيين الذين ابتهجوا بحضور ابنهم واحتفوا به أينما احتفاء، وكنت من أولئك الذين أبهرهم الجرادي الشاعر والإنسان بحضوره، حيث ألقى قصيدتين كانت إحداهما: لست محظوظاً لكي أغفو على وتر وناي، والأخرى: من يوزن الرعد صخاباً ومضطرباً. وما زال صدى صوته يدهمني ولم يبقَ من المنبر الذي وقف عليه الجرادي سوى صور الذاكرة وصدى الصوت.
نُكبت الرقة في السنوات الأخيرة، ونُكب أهلها، وتيقن فرسانها أنه لم يعد للأدب والثقافة أي جدوى في ظل سطوة الموت الذي آلم الفرسان وخلّف الأوجاع في أرواحهم، وهم يرون مدينتهم وإرثهم يُدمر، وثورة الحرف التي أرادوا من خلالها أن يُبرزوا مدينتهم المنسية، لم تكن كافية لتشكيل الوعي الجمعي، وأحرقت الرايات السوداء كل ما بقي منها، فراحوا يترجلون واحداً تلو الآخر، لأن أرواحهم لم تحتمل كل هذا الفقد.
الأديب الصحفي محمد جاسم الحميدي (رحل في تموز 2016)
الدكتور الأديب والناقد عبدالله أبو هيف (رحل في نيسان 2017)
الدكتور الشاعر إبراهيم الجرادي (رحل في أيلول 2018)
مجلة قلم رصاص الثقافية