سارة حبيب |
صورة فيسبوكية تشي بالقسوة، الجدية، والغموض.. وإذا ما تسنّت لنا الفرصة وقرأنا “سيأتيك الغزال”، فسنقوم بعملية ربط متسرّعة ونقول (تلك جلافة الصحراء، وما تصنعه الرمال من شخصيات صعبة المراس).
“هل عطشي الى حليب الأم هو من أورثني نزقاً دائماً وسخطاً وعزلة اختيارية”؟ يقول خليل صويلح في تلك الرواية ونصدقه.
لكن إذا ما زرنا دمشق، وأتيح لنا بفرصة ما أن نقابله، وغالباً سيكون اللقاء في قهوة الروضة “ملجئه”، فسيكون بوسعنا تحطيم الصورة النمطية والتعرّف إلى شخصية متعددة الأبعاد، ولها خلف الوجه القاسي ما لها من خفة الدم.
هكذا متأبطاً “قانون حراسة الشهوة” قد يدخل خليل صويلح قهوة الروضة، يتخذ مكانه قرب النافذة الشفافة، ويقلّب معنا صفحات هذا الكتاب. وسنقرأ..
في الصفحات الأولى يباغتنا “قانون حراسة الشهوة” إن لم يكن لدينا عنه بطاقة هوية مسبقة، تمرّ صفحات وندرك: هذا الكتاب ليس رواية كما قد نتوقع، لكن هذا لا يعني أنه شيء آخر محدد.
بأسلوب يجمع السرد القصصي مع المقالة الصحفية مع الحكاية الشفهية يسرد خليل صويلح بسلاسة الكثير من الحكايات في هذا الكتاب، يتأبط ذراع العديد من الشعراء، الروائيين، المترجمين، السياسيين والكتب ويقول لهم ولنا “لنذهب في رحلة”، ونذهب..
ينتقل الكتاب تحت مظلة عناوين فرعية لافتة “عندما يستعير سائق التاكسي مقعد الروائي”، “أن نقرأ الجسد أنثروبولوجياً”، “نبي أعزل بلا مريدين”، “لكلٍّ منا حصته من ميراث ممدوح عدوان”، “ماركيز يترك مقعده شاغراً”، وغيرها من أكثر من أربعين ثيمة ربما يصح كل منها عنواناً لبحث كامل مطوّل لولا قناعة صويلح بالتكثيف “يحضر السرد لديّ بوصفه متواليات بصرية والاستغناء عن الوصف المسهب، فأنا أعمل على ثيمة محددة ثم أحشد كل ما يتعلق بها في عملية تركيب معقدة” يقول.
يمشي الكتاب أولاً تحت ظلّ عنوانه العام “حراسة الشهوة” فيما يبدو تعريةً لسيطرة “مقصّ المكتوبجي” على معظم الأدب العربي فيفضي إلى التخبط بين ثلاثة اتجاهات “الطهرانية الكاذبة، الجفاف اللغوي، أو النص الأيروتيكي”. لكنه ما يلبث أن يتشعب بمواضيعه مورداً ما يشبه سيرة مختزلة، لكن وافية، للعديد من المبدعين والكثير من المواضيع.
يخبرنا خليل صويلح مثلاً عن مانغويل ومكتبته، عن غاليانو “المؤرخ الجمالي”، عن أناييس نين وهي “تطلق سراح الإيروسية الكامنة في داخلها”، عن بوكوفسكي “ساعي البريد المتهتك”، عن جان جينيه، فروغ فرخ زاد، سنيّة صالح، وغادة السمان الغائبة. يخبرنا عن الحلاق الذي أصبح روائياً “حنا مينه”، و سعد الله ونوس وهو يتخبط بين “اليأس، الجحيم، العدم”، ثم يخلص بغرابة إلى ثيمة “إننا محكومون بالأمل”.
كذلك يمرّ الكتاب بحيوات زكريا تامر، ماركس “أول من يكتب عن النقود ولا يملكها”، ماركيز الذي “ترك مقعده شاغراً”، إشكاليات أدونيس في “التاء المربوطة بين الجامع و الجامعة”، حكايات روزا ياسين حسن، ومعاكسة مرام المصري للتيار، وحنيف قريشي وإليف شافاق ضيفين جديدين على المكتبة العربية.
إن خليل صويلح حين يتحدث عن أديب ما في هذا الكتاب، لا يورد لنا ما قد نجده في غوغل، لكنه شأن الصحفي المثابر يأخذنا إلى حيث عاش هؤلاء حقاً، وحيث يعيشون أو يرقدون الآن. فهو مثلاً يتتبع مسيرة نزيه أبو عفش التي استقرت الآن في مرمريتا، ويترجم مراحل حياة صالح علماني من دمشق إلى مدريد بوصفه “مترجماً برتبة كولونيل”، يواكب سليم بركات “الكردي العابر بنعال من ريح”، و يدعونا لزيارة مرسم منذر مصري في اللاذقية بعد أن يشرّح مسيرته الشعرية و يغلي معه “شاياً ليس بطيئاً”.
لا يكتفي الحائز على جائزة نجيب محفوظ 2009، وجائزة الشيخ زايد عام 2018، بسرد حكايات الكثير من الأدباء، ربما حتى لا يعطي كتابه شكل سلسلة من السير الذاتية، بل يتعدى ذلك إلى معالجة مواضيع غاية في الأهمية دون أن يشكّل ذلك خروجاً عن سياق الكتاب العام، بل تنويعاً جميلاً فيه. تحتَ عنوان “خرائط ممزقة و صكوك غفران”، مثلاً، يتناول صويلح حال المثقفين السوريين اليوم، تحولاتهم وحروبهم الافتراضية، فيما يتماهى جزئياً مع روايته “جنة البرابرة” التي توثّق لحالة سورية “ليس بوسع شهرزاد الجديدة أن تروي كل حكاياتها” حسب قوله.
لا ينسى الكتاب/الرحلة أيضاً أن يعرّج على مواضيع اجتماعية حيوية مثل “قيمة العذرية” و”ميراث الختان” في عودة للقوانين الاجتماعية التي، بشدة وتطرّف، تحيك سياجاً حول “قانون الشهوة”.
لا يغفل صويلح كذلك عن إخبارنا بخفايا تجربته الروائية وعلاقته مع الكتابة والقراءة في بعض من الفصول مثل “الرواية تلك المهنة الشاقة اتي نذهب إليها طوعاً” و “كمن يتجول بسروال الجينز في سوق الوراقين” مشيراً إلى ذاته وهو يتجول بحداثته بين كتابات الماضين.
يختتمُ الكتاب أخيراً مسيرته المتشعبة بسؤال يبدو منفصلاً للوهلة الأولى “ماذا يفعل الطغاة بعد انتهاء مدة صلاحيتهم؟”، لولا أن وجهة نظر أعمّ وقليل من الخيال يمكن أن يربط هذا العنوان بقضايا كتابية أدبية مثل “ماذا قد يفعل الكتاب بعد انتهاء مدة صلاحيتهم”؟ أو متى تنتهي صلاحية “المكتوبجي” الذي يقصقص من كتاباتنا ما يقصقص؟!
إن أهمية كتاب “قانون حراسة الشهوة” لا تكمن فقط في الغزارة الفكرية والمعرفية التي يقدمها، (ما نخرج به بعد قراءة الكتاب ليس أبداً كما دخلنا به)، لكن أيضاً في الأسلوب الأدبي الذي يتبعه ليغزو رؤوسنا. إن خليل صويلح في هذا الكتاب يستفيد من مقدرته الروائية إلى أبعد درجة، بما يُقصي عنّا الملل الذي قد ينجم عن كتب توثيقية مسهبة. بهذا يكشف هذا الكتاب الصحفي داخل الروائي، والروائيّ في قلم الصحفي.
إن قانون حراسة الشهوة، يحوّل خليل صويلح إلى شهرزاد على طريقته الخاصة، حتى إننا سنتمنى لو تمتدّ لياليه أكثر مما فعلت، أو لو أن صويلح، مثل غونتر غراس الذي تحدث عنه، يقشّر لنا مزيداً من البصلات الخفية عن الحيوات المركبة والخفيّة للغائبين والمغيّبين في هذا العالم.
مجلة قلم رصاص الثقافية