مع كل عمل فني جديد تكون ولادة جديدة تضاف إلى نتاج إنساني تراكمي ضخم تجمع عير آلاف السنين، ضم خلاصة الفكر والفن والتجربة للأفراد والشعوب.
وفي سياق المعايير النقدية المتغيرة والنسبية، يحافظ عاملٌ أساسي على مكانته في تقويم الاعمال الجديدة؛ هذا العامل يتجلى في مقدار ما يضيف العمل، إضافة قد تكون على الصعيد الفكري أو الفني بجوانبه المختلفة المتعلقة ببناء العمل وشكله وأدواته وفنيته واختلافه، سواء اقتصرت هذه الإضافة على جانب واحد أو عدة جوانب، شرط ألا تهبط سوية العمل عن حدود الجودة التي هي ليست موضع إجماع أيضاً!
إن ولادة عمل، هي عمليه معقدة تشبه ولادة كائن جديد، من حيث مراحل التشكل وخصوبة الحاضن واحتمالات التلاقح وبالتالي احتمالات التمايز اللامتناهية وبالوقت ذاته احتمالات التشابه التي تكاد تكون لا متناهية أيضاً، لكن وباستمرار المقارنة نرى أن الاحتفاء بالمولود الجديد كان ولا يزال عرفا اجتماعياً متوارثاً، لأن الولادة حادثة فريدة مدهشة فهي كحدث مستقل تتطلب الاحتفاء دون النظر إلى ما سيكون عليه المولود في المستقبل، فهل من المناسب الاحتفاء بالعمل الفني لحظة ولادته أم أن الأمر مختلف، والمطلوب من العمل إثبات أحقيته بالاحتفاء أولاً؟ وإذا كان الأمر كذلك أليس من الإنصاف أن تخضع الأعمال الجديدة لقراءات نقدية حقيقية محترفة تقدمها للجمهور المختص وغير المختص، وفي الوقت ذاته تنصفها وتنصف مؤلفها أو مبتكرها؟ فإذا انتقلنا إلى التخصيص ولاحظنا الحركة الفنية – الأدبية في مجتمعاتنا، واسترجعنا ما قيل وما يقال حول تراجع الحالة الفنية الثقافية الفكرية فيها بشكل عام، التراجع الذي جاء بدوره نتيجة تردٍّ أصاب مختلف جوانب الحياة، ألا تقفز أسئلة كثير إلى الذهن حول دور المثقف والناقد والمبدع والإعلامي -كأفراد أو مؤسسات- وربما واجباتهم الأخلاقية والثقافية تجاه مجتمعاتهم وتجاه الفن والفكر شكل عام؟ ربما شكل ما ذكرت قاعدة مناسبة للدخول في قراءة أولية لرواية (بيت الأمتار الستين) للكاتبة الأديبة زينب عز الدين الخير.
– على إيقاع سردي يشبه إيقاعات الدبكة الشعبية في المناطق السورية سار إيقاع الرواية حيث يتهادى الرتم بانسيابية عذبة، بانتظار ال(دُم)، التي معها تضرب أقدام الراقصين والراقصات الأرض فتعيد النبض والحيوية والرشاقة والطموح للحالة – النص. هذه ال (دُم) الرشيقة ظلت حاضرة على امتداد النص الذي جنح أحيانا للوصف، وأحيانا للسرد وأحيانا لرومانسية تذكرنا بالمرحلة الرومانسية للرواية العربية. بفكرة سردية مبتكرة بدت مفيدة لجوانب فنية أخرى اتخذت الكاتبة من جولة سياحية اطلاعية في مدينة جبلة حاملا لتمرير أحداث الرواية، هذه الجولة التي تقوم بها بطلة الرواية نجوى في المدينة التي ترعرعت بها، برفقة عدد من المسؤولين المحليين والوفد الدولي. جولة زمنها يوم واحد، حرضت في ذهن البطلة ذكرياتِها التي هي ذكريات المكان وذكريات الزمان وارتباط كل ذلك بالحياة – بالإنسان. يبدو البناء السردي للرواية متمايزا إذاً؛ فهو لم ينهج منهجاً تقليديا؛ لم يقدم نفسه على أنه مذكرات، ولا مراسلات ولا الراوي العارف بكل شيء، بل استدعى ببراعة ذاكرة مختلطة (فردية – جمعية)، ولعب على التوازي بين حدثين غير متجاورين؛ الجولة – وأحداث وتداعيات الذاكرة البعيدة والقريبة. تشدك الرواية، وكمتابع مهتم مثقل بموروث قرائي مدجن وربما بعقلية منفتحة تطرح أسئلة الأين والكيف والماهية والمآل والهدف، تتساءل، أين الحبكة؟ هل توجد ذروة درامية؟ هل من أبطال محددين؟ هل من خيط أساسي وخيوط فرعية؟ ماذا عن الموضوع؟ هل للنص غائية ما؟ ما هي الجوانب الفكرية التي أراد التطرق إليها؟ أهو سرد وكفى؟
يتتالى طرح التساؤلات وقراءة النص تتقدم، لكن النص يزوغ من إعطاء الإجابات الشافية، ويُبقِي على تحريض مواصلةِ القراءة، يحافظ على توتره ونبضه لكن دون محدِّدات درامية أو فنية ظاهرة.
مع كل تلك التساؤلات تتبدى شيئا فشيئا صفات النص وربما مزاياه؛ يذكرني تتالي الأحداث وتجاورها برواية مائة عام من العزلة للماركيز هي حكاية بلدة – مدينة صغيرة، تنطلق في روايتنا من بيت الأمتار الستين الذي يبدو ضيّقاً على أسرة متعددة الأفراد، لكنه يتسع بالتدريج في بناء سردي أفقي حتى يصبح مدينة، وبالتأويل والأسقاط يستطيل عمودياً ليغدو حكاية حقبة من تاريخ وطن، وما يبدو لوهلة عفوياً وحكائياً لمجرد الحكاية يكتسب معانيه العميقة، التي تتضمن فيما تتضمن بنية المجتمع السوري ومكوناته وشرائحه وطوائفه، وطبائعه، وعلاقاته الأسرية، وعلاقاته المؤسساتية، وتطوره (الذي ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً)، ويبدو التركيز على البنية السيكولوجية (إلى حد ما) أكثر من التركيز على الحدث التاريخي السياسي الضخم كالحروب والانقلابات، فالتعريج عليها يمر مرور الكرام مع رصد بعض ردَّات الفعل الخجولة. ويستمر التساؤل: أين الصراع إذاً؟ أين هم الأشرار؟ إذ تبدو الشخصيات بمعظمها حتى تلك التي وصفت بأنها فاسدة، تمتلك جانباً إنسانيا هو الأهم في بنيتها النفسية. هل هي رومانسية النص أم رومانسية المؤلفة؟ أم أن المجتمع السوري هو كذلك فعلاً؟ معظم أفراده طيبون بما في ذلك الفاسدين؟ هذا السرد يحيلنا بمكر إلى تساؤلات عابرة لزمن الرواية، إذا كان الناس بهذه الطيبة في المجتمع السوري، فكيف نبرر حقبة ما بعد النص أي حقبة الأزمة السورية التي بدأت سنة 2011 ولا تزال مستمرة بما فيها من مآس وشرور؟ ربما يذكرنا هذا أيضاً بأمنيات كثيرة سمعناها ممن عاشوا الأزمة: (نتمنى أن نعود كما كنا في الماضي حيث الأمن والأمان). هذه الملاحظة تذكرنا بضرورة نسب النص إلى زمن صدروه أو كتابته عند قراءته النقدية. وعلى ذكر الزمن وبالتعريج على زمن الرواية نلاحظ أن النص تقافز زمنيا بين المراحل، وسلك سلوكاً متذبذباً؛ فروى أحداثاً متجاورة زمنيا، وأحداثاً غير متجاورة في قفزات ذهاب وإياب وتوازٍ وتضاد وخطف وتخاطف نقلت القارئ – خلال صفحات قليلة- بين أجواء متباينة السمات تاريخيا ومجتمعياً.
بالعودة إلى شخصيات الرواية وسؤال البطل، نلاحظ ثلاثة مستويات أساسية: شخصيات الأسرة الصغيرة سكان بيت الأمتار الستين، وشخصيات الأقارب الأسرة الكبيرة، ثم شخصيات الحي – المدينة، إضافة للكيانات الاعتبارية كالمعالم الهامة (المدرج الروماني- جامع السلطان- حمام السوق) التي تمتلك قصتها أيضاً، وجميع هذه الشخصيات أخذت حيزها التي يجعل منها –جميعاً- بشكل أو بآخر أبطال الرواية، الذين يحتضنهم بطل يقبع في الخلفية إنه المدينة – مدينة جبلة- تساؤل آخر يبدو من المشروع طرحه: إذا كان من سمات العمل الفني الإتيان بغرائبية ما أو بحادثة استثنائية ما، فأين الغرائبية والاستثناء في هذا النص؟ بتقديري لم يغفل النص هذه الناحية وإنما تعمد الخوض في العادي من التفاصيل والسلوكيات قصص الحب والفراق والألم والندم والادعاء والتصنع والتحصيل والتغيرات حول نمو الشخصيات ومآلها….
إنه بشكل أو بآخر يتحدث عن الناس العاديين وعن مواجهتهم لظروف الحياة المتقلبة، سواء كأفراد أو كأسرة أو كمجتمع، ألا يستحق هؤلاء العاديون أن يجدوا من يهتم لأمرهم ويضيء على حياتهم بجوانبها المختلفة، هل هم عابرون دون أثر يذكر أم أن على فنٍّ ما أن يقتفي آثارهم؟ من هذا المنظور أسجل للنص جرأته في الحديث عن العادي والمألوف واستخراج ما هو رمزي وتأويلي وغير عادي منه. أيضاً سوف نلاحظ أن النص وعن عمد أورد عدداً كبيراً من أسماء الأكلات الشعبية، ووصف كثيراً من العادات والتقاليد، كما وصف الطراز المعماري القديم الذي اختفت سماته باقتحام غابات الاسمنت، هذا الوصف برأيي أغنى النص ولم يثقله، وربما كان إحدى غاياته.
ختاماً أقول: استمتعت بقراءة رواية (بيت الأمتار الستين) للكاتبة زينب عز الدين الخير، عمل يستحق القراءة والاحتفاء به كمولود جديد، وموسيقى رومانسية يسرح الخيال معها بانتظار ال (دُم) التي قد تكون صادمة أحياناً، وأحياناً أخرى تكون ممتعة كمتعة نزول أقدام راقصي الدبكة.
مجلة قلم رصاص الثقافية