غنوة فضة |
لو آندرياس سالومي:
غالباً ما يحجِبُ الرجل الضوء عن نساءٍ من التاريخ، لكن، أن تفعل ذلك امرأة بِعدَّة رجالٍ اعتُبروا عباقرة زمانهم، وتغرسَ وَتداً في أبعد نقطة من أعماقهم، فذلكَ لم يحدث إلا في الروايات والقصص.
الطفلة الأثيرة الموهوبة بين خمسة صبيان، وابنةٌ العسكريّ اليهوديّ الروسي، وُلدت في سانت بطرسبرغ. عشقت سردَ الحكايا وابتكار الشخصيات الخيالية. وصلت مدينة زيورخ 1882 ممتلئةً بالطموح، برغبةٍ جامحة للتعلم والظهور على شكل امرأة مثقفة وأديبةٍ منقطعة النظير، فدخلت إلى معترك الكتابة متألقةً جَسور، ولمْ يطلْ بها الوقت حتى استُدرجَت إلى مناقشة قادة الدراسات الأكاديمية في أوروبا. وظهرت من حينها في نقاشاتها المُباغتة، بثقة وحماسة غير مألوفة.
لعبت دوراً كبيراً في حياة الكثير من أعلام الأدب والشعر وعلم النفس، الأمر الذي حذا بالكثيرين للقول والكتابة عنها أنها “امرأة زمانها”.
سالومي وَنيتشه:
نيتشه؛ الفيسلوف العظيم، الذي نادى بالحرص على الجمع ما بين السوط والمرأة واعتبرها الفخّ الذي نصَبَتهُ الطبيعة للبشر؛ تعرّف إلى سالومي من خلال معلّمها هنريك جيلوت، حيث تمكّنت من لفت انتباهه بعد أن أُعجِب بنضجها وذكائها حتى هامَ بها. عاش من خلالها عاشقاً دون مقابل إلى أن أصابتهُ بالجنون بعد أن طلبت إليه الزواج ورفضت بُعيدَ موافقته، لتُسبب له طعنةً ذابحة بعد أن اتهمها بالخيانة مع الفيلسوف بول ري، فصار صاحبُ الإرادة القوية – نيتشه – رجلاً هشاً كئيباً سوداوياً واقفاً على حافة الانهيار بعد أن خرجت من حياته أول النساء قرباً إلى قلبه، فاعتزل العالم في وحدةٍ خرج بعدها بكتابه الشهير “هكذا تكلم زرادشت”.
سالومي، الروسية المثيرة المختلفة عن كل ما قابله من نساء، كانت القشة التي قصمَت غرور نيشته وكبرياءه وَأوصلَتْهُ إلى مشفى الأمراض العقلية، حتى قال فيها:
إنني لم أجد امرأة تصلحُ لأن تكون أمَّاً لأبنائي
سوى المرأة التي أحبّها
لأنني أحبّكِ يا أبدية
لأنني أحبكِ يا أبدية.
سالومي وَريلكه:
راينر ماريا ريلكه؛ الشاعر الذي قتلتهُ وردة، وصاحب الطفولة المنعزلة الصامتة والمسكونُ أبداً بهاجس الموت. أَحَبَّ سالومي بعد نيشته حين كانت في عمر السادسة والثلاثين وكان هوَ في الثانية والعشرين، وبعد زواجها من عالم اللسانيات الأكاديمي “آندرياس”؛ والذي أذاقته المرارة بعلاقاتها وطموحها الوقاد هو الآخر. أحبَّها ريلكه حدَ الاحتراق رغم أن علاقتهما كانت قصيرة الأمد، وأقنعَتْتهُ بإضافة لقب ماريا إلى اسمه رغم صبغَتهِ الأنثوية، فصارت لهُ الأمَّ والعشيقة، وأذهلته تلك الطاقةُ الأنثويةُ المتجسدةُ بأسمى أشكالها، فكتبَ إليها أكثر من عشرينَ ألف رسالة، وكادَ أن ينتحر لرفضها الزواج منه لحجّة كونه أصغر منها. أما عنها، فقد أغدقتْهُ حبَّاً. ساعدتهُ على تجاوز عقدهِ النفسية الراسخة جلياً في أعماله، والذي لولا لقائها به لدفعتْهُ للموت والانتحار.
سالومي وفرويد:
الجمال الطّاغي على سيدة في منتهى الجاذبية، ساهمة، كأنما خرجت للتو من فيلم أمريكي رومانطيقي. هكذا كانت تجلس سالومي في الصف الأول من مقاعد الحاضرين لمؤتمر التحليل النفسي في فيينا 1912 الأمر الذي لفتَ الأنظار إليها، إلا أنه منع الباحثين من النظر بعين الجدية إلى محاولتها في تقديم نفسها كمحلّلة وباحثة وتلميذة من تلاميذ المؤسس الكبير “سيغموند فرويد”.
حرصت سالومي من بعد المؤتمر على الالتحاق بمدرستهِ، ووقفت إلى جانبه في عراكه مع “آدلر” الأمر الذي أرضى غرور العجوز فرويد، وولعَ بها من اللحظة الأولى، فدخلت أبحاث التحليل النفسي وتجاربه من أوسع أبوابه وراحت تُطبِّق مناهجهُ على نيتشه، فأعطاها ذلك دفعاً وزخماً كما لو أنها تحيا حياةً ثانية، فأَكَبَّتْ على وضع كتاب عن فرويد، واعتقدت أنه سيكون مرجِعاً، لكن أحداً لم يأخذه بعين الاعتبار، مما دفعها للتساؤل حول ذلك طوال حياة قائلة، لماذا ؟
وعلى الرغم من أنها لم تتمكّن من التعمّق في علم النفس، إلّا أنها التقطت من فرويد ما يكفيها لترسم ملامح شخصيتها النفسية الخاصة.
امرأة لا تكفُّ عن الركض:
مُتمركزةً حول ذاتها فقط، كانت تلهثُ وراء العلم والبحث والكتابة. أوقعت “توسك” وأودتْ به إلى التهلكة، وأرهقت “بول ري”. أصابت “نيتشه” بالتعاسة، و”ريلكه” بالحزن المأساوي المرير، ولم يسلم منها “فرويد”، وحتى زوجها “آندرياس” الذي حاول إيجاد التوازن بين علاقتهما وجموحها الفتاك إلا أنه قرر التخلي عنها لصالح “ريلكه”.
المرأة الخارقة كما تصفها جميع الأوساط الأدبية والثقافية، وضعت العديد من الكتب والمسرحيات والروايات. قهرت عباقرة عصرها على أبواب شخصية فذة، ووجدت في الحرية اللا محدودة ضالتها، ورغم ما أجمع عليه النّقاد أنها عانت حيرة وقلقاً، إلا أن التاريخ أثبت أنها كانت تُغيّر عشاقها كما تغير أنواع الكتابة على الورق، فهل كان أولئك الرجال حقول تجارب لأسئلتها العميقة هَوَسها في البحث والتفتيش عن أسرار النفس البشرية؟
لا جواب، إلا صدى امرأة كانت ابنةً لزمانها، توفيت بأسلوب مختلف وراقي عام 1937 في نومها، بعد أن قضت حياتها مُلهِمة، وذات قوة وجاذبية وجمالاً مغموراً بذكاءٍ متقَّدٍ.
سيلفيا بلاث:
الفتاة التي أرَادَتْ أن تكون إلهاً؛ ولدَت بلاث في بوسطن 1932، لم يكن جسدُها يّتسع لها. كانت تقول دوماً أنها خُلِقت للكتابة. صارت في صباها معلمة إلا أن ذلك لم يلقَ قي قلبها الرضى لذا اتجهت للكتابة وعزمت على كسب عيشها منها، ولما لم يُرضيها ما أزْجَتْهُ لها من مال؛ راحت تشقُّ طريقها في عالم الكتابة، فهل كانت صيادةً محترفة؟
زواجها من الشاعر تيد هيوز :
بين جدران كامبريدج. كانت بشَعرها المقصوص وحُمرتها وفساتينها تلتقي بالشاب الرياضي، القارئ الشكسبيريّ المتمرس، والراوي الشيق عن الأساطير والأبطال الإيرلنديين، مُفلس إلا أنها وجدتهُ رائعاً وصادقاً.
أحبَّتْهُ حتى الجنون، وبعد الزواج أعلنت أنها على استعداد للموت في حال حلَّ به مكروهٌ ما. إلا أن الزواج بعد ذهاب بريقه الأول خَفَت، وبهَتَ وصار مُتحجِّراً وراح يُسبب لها الكثير من الألم، ورغم أن بلاث تشاركت وَهيوز المجازات الشعرية والشخصيات القوية المتناحرة والجمل الرهيفة الرقيقة إلا أنهما كانا عاشقين برأسين يابسين، ممتلئٌ كلٌّ منهما بالآخر، فهل كان من الممكن لشاعرين أن يقعا في الحب دون أن يتنافسا على المدى البعيد؟
إنهاكٌ حدَّ الأرق:
عانَتْ سيلفيا خلال زواجها اضطراباتٍ عديدة. هجرها النوم، وداهمها الخوف من العقم، كانت تحلم أن تصير تلك الكاتبة والأم، فالأمومة في نظرها شعورٌ سحري مسكون بالخلود يُحوّلها إلى عالم مغمور بالسعادة بمجرد لمسة إصبع طفلٍ وردية، فكتبت حينها:
“عليَّ أولاً أن أقهر تجربتي في الكتابة كي أستطيع بعدها أن أتغلّبَ على مخاض الولادة الذي أَرّقَني”
أنجبت طفلاً وطفلة، وأصيبت هنا بعقدة البحث عن الكمال. الموازنة بين عالمين لا متناسبَين، الأمومة والكتابة، فانزوت في المنزل تكتب وتهتم بالعائلة والبيت، تُخربش على الصفحات أينما وجدتْ، وتهذي بجملٍ عن تغير الحفاضات وإعداد وجبات الطعام، تُشاهدُ عن بعد، من الهامش ما يحدث في عالم الأدب بعين الأسى، فوجد الغضب والفزع وتدمير الذات طريقه إليها، وراحت تكتب عن الرغبات الداكنة المكبوتة في حياة مدلهمّة، ومما زاد في ألمها استمرار بريق زوجها في الشعر، وانعدام تأثره بازدياد عدد أفراد العائلة وأعبائها، وكثيراً أشارت في رسائلها التي اكتُشفَت بعد موتها، أنها كانت تسجل الأفكار والاستعارات على ورق مسودة مبعثر لتجدها بعد أيام منشورة تحت اسمه في الدوريات اليومية.
إلى أن انفصلت عنه، وبدأت محاولاتها في الظهور بصلابة، خاصة بعد تأكدها من خيانته لها، الأمر الذي عمّقَ من شعورها بالوحدة دون أن تدري، وتشعر بالأسف لحال طفليها اللذان عاشا دونه، فكتبت في ذلك:
غيابٌ نما داخلهم كشجرة
وعليهم أن يعتادوا عليه
إتقان الموتِ كَفَنٍّ:
“الموت فنٌّ كأيّ أمرٍ آخر, وإني أقوم به بمنتهى الاحتراف”.
كان عليها أن تتفوق بكل شيء، كأُمٍّ، كزوجة، كاتبة، وشاعرة، أرادت كل شيء دفعة واحدة دون تدرج، تعقّدت في بحثها عن الكمال كمن يعرف، كمن يَقتل وَيُقتَل، كمن يُقامر بمصيره لتسكُنَهُ في النهاية مأساةٌ بحجم الكون. كتبت حينها ما يقاربُ ألف قصيدة وكانت غزيرة الإنتاج، فانهالت تخطُّ الدواوين والقصائد، وعمدت إلى نشر روايتها الأولى “الناقوس الزجاجي”، إلا أنها نشرتها بداية تحت اسم مستعار كان “فكتوريا توسك” قلقاً حيال ما يمكن أن يُثيره من ألم لأفراد أسرتها الذين عَرَّتْهم ووالدتها المتسلطة على وجه الخصوص.
أطلق عليها النقاد لقبَ “مارلين مونرو الأدب” إلا أنها كانتْ مُصابةً بِهَمٍّ كبير، عشقُ هيوز وكرهُها لخيانته من الجانب الآخر.
ورغم أنها حاولت الانتحار سابقاً، إلا أنها وصلت لدرجة من الوحدة والعزلة والعدو بيأسٍ خلف الكمال أَشعَرتْها بحتميّة الانتحار. فاستيقظت في صباح الحادي عشر من فبراير 1963 والملل والاكتئاب يسيطران عليها، أطعمت طفليها، ودخلت المطبخ وأغلقت الباب بعد أن أطقت غاز الفرن ووضعت رأسها بداخله إلى أن استسلمت للموت الأبدي بعمر الثلاثين.
يُرجح كثيرون بعد اكتشاف رسائلها، أن هيوز كان السبب الرئيس الكامن خلف رغبتها في الموت، بينما يُشير آخرون إلى ابتعادها عن والدتها وسلطويتها والذي كان سبباً لشعورها بنقصٍ طفوليّ المنشأ، أيّاً يكن، لم يكن بالمقدور تجاهل ما أنتجَته بلاث من قصائد وأشعار، ومدوّنتُها “مجموعة اللعب مع سيلفيا” عُدَّت من أهمّ ما قدَّمتْه إلى جانب “آرييل”، إلى أن جاء انتحارها الانتحار الأدبيّ الأكثر جدلاً ولغطاً في الأوساط الثقافية ألتي ما فتأت تُشير إلى مفارقة أن مُسبِّب انتحارها كان الوريث الوحيد في وصيتها الأخيرة.
بين عالمَين مختلفين اختلاف النار والرماد، كانت سيلفيا وسالومي قطبين مُتناقضَين في نشأتهما وتكوُّنهما ونهايتهما أيضاً، ففي الحين الذي كانت فيه سالومي ناراً مُتأججة متماسكةً أحرقت كل من اقترب منها، كانت بلاث امرأة من رماد هشّ خبا وهجهُ المُندثر في ريعان الشباب.
مجلة قلم رصاص الثقافية