في اعتقادي، يولد سؤال الموت مشفوعا بفطرة وبديهية الكائن،ليترعرع في المخيال البشري،ويعظم و يتنامى بتقدّم الإنسان في السّن، وفقا لما تقتضيه هذه الدورة الوجودية الكاملة،بين ضفّتي الولادة والفناء، ونجد المقدّس وقد فصّل في هذه المسألة ،تماما مثلما تورد فحوى ذلك الآية 54 من سورة الروم:( اللهُ الَّذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةٍ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).
وهكذا يأخذ مُنحناه توجّها تصاعديا، ما بين الجذور الطبيعية الأولى، والحالات المرضية المترجم لأعراضها مشهد التوغّل في مرحلة الكهولة، وهو ما يبرّر إلى حدّ ما بعض السلوكيات النشاز التي تتم ملاحظتها لدى الكثير من العجزة،من تصابٍ واشتعال حنين إلى الطفولة الأولى في أينع طقوسها، بحيث تفضل الذاكرة،المنفذ الوحيد المخوّل لاسترجاعات وجدانية ،مغرقة بتفاصيل الطفولة البعيدة بالأساس، كمتنفّس ومضاد لقساوة لحظات قد يهيمن فيها الإحساس بدنو الأجل، وتتوهج لديها هواجس الموت.
هذا عند عموم البشر، لكن ماذا بالنسبة إلى طينة المبدعين أو سرب الغاويين،كما تفضّلت بالسؤال زميلتي رانيا بخاري…؟
أحسب منسوب كهذه هواجس ،في الحمولة الإبداعية،وفي انتمائها إلى عوالم الشعر، بدرجة أولى ، تكون مضاعفة وتنوء بثقلها الذات الشاعرة تحديدا،لا لشيء، سوى لكونها تُتغذّى من نرجسية واعية جدّا، بمركزيتها وبوجود الآخر والكوني،ومجمل ما يتأسس على هذه الخلفية من تجاذبات وتنافرات ومدّ وجزر ، في خضمّ منظومة مفاهيمية،تتشرّب قدر الحاجة، ثقافة تفوّق النوع البشري ،وتتكئ على ملاحم فرض الذات والوجود.
بالعودة إلى صلب الاستشكال ،نلفي هذه الجدلية، تنزلق بنا إلى ما هو أعلى سقفا، ربمّا ،من سؤال الفناء، وأقصد المصدر الذي يمثل الوقود الأساسي لهذه الحالة، إذ تتطوّر وتتفتّق عن منبت نواميسها وفطرتها، وصورتها الأصلية،لتلج خندق الفوبيا الذاتية المتسبّبة بانتحار المبدع ، كما هو الشأن مع الروائية الإنجليزية فيرجينيا وولف (1941 ـ 1882)م، التي وضعت حدّا لحياتها بعد عمر قارب السّتين،غرقا، بعد أن ملأت جيوب معطفها بالحجارة، كما هو شائع عن طريقة موتها، ولو أنه، حسب بعض الدارسين والمهتمّين بحياة وأدب هذه المبدعة ذات الصيت العالمي،يربطون أولى رغباتها في الانتحار، بسنّ متقدّمة جدا ،الثانية والعشرين من عمرها، وقد قفزت من نافذة بعلو غير كاف ،نجت منه لتؤجل رغبتها المجنونة تلك،في الانتحار داخل سياقاته الإبداعية، وما تنطوي عليه فلسفة ورؤى،تلحّ هي الأخرى ،باستدعاءات جدلية الإبداع وجنون النبوغ والعظمة.
قلت ثمّة سؤال الغائية الإبداعية إجمالا،وما يحاول ـ عبثا ـ ترعه ،من فراغات في الشخصية السّاقطة في فخّ العلّة النفسية وما ينجم عنها من اختلالات،نتيجة تمكّن الاكتئاب من الإنسان مبدعا، بامتياز،من بعدا ما يكون استنفذ جهده وأنفق وقته في تحسّس ملامح تلكم الجدوى من الممارسة الإبداعية في كلّيتها المركّبة والمعقّدة حدّ اللعنة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ معادل الأنثوي ،يستقوي بحضوره ، أقلّه من منظور إبداعي صرف،تزكيه النظريات النفسية المفتية، بثقافة الهشاشة والقابلية للانكسارات النرجسية، لدى الأنثى بمعدّل أعلى وصبيب أقوى،يُستشهد عليه بارتفاع حالات الانتحار في صفوف الجنس اللطيف ،على وجه التحديد.
هذا ونجد نازك الملائكة الشاعرة،وإن تقاطعت مع فيرجينيا وولف في خلل نفسي يدعى الاكتئاب، هذا الذي يبتدئ بتقمّص أدوار القرين ـإبداعيا ـ كي ينقلب إذا لم يحسُن استثماره لصالح الذات المبدعة وهي تنشد نقاط توازناتها الوجودية ،بشكل مكرور ودائم،ينقلب إلى فعل انتحار.
مع نازك،يتحقق هذا الاستثمار لعناصر المعاناة الملدوغة بثغرات النفسية المكتئبة، ليتحول إلى قطوف وثمار وإيجابية مراوغة لمحطّات الانتحار كحلّ لا ردّة فيه تمليه لحظة انهيار نفسي تامّ ، وكأنّ رمزية هذا المثلب ،في ضمنية الممارسة الإبداعية، تبطل تجليات تبعاته وأثره في النضال الحياتي بشكل أحوى وأعمق.
وهكذا تستساغ مرارة المعاناة مع حالات الاكتئاب ،حتّى في درجاته القصوى ،كونها تصرف إبداعيا ـــ إذا شئنا ــــ مسوّفة الانتحار الفعلي ومماطلة إياه ببديله الرّمزي، لحين انفراج الحال وتخطّيها، أو الدخول في نوبات أخرى، كأنّما تُقنع الذات بخيارات تجريبية مجُابِهة لراهن الحالة المرضية الحادة والمتفاقمة، على نحو منوّم ،بشكل أو بآخر، لهذا الفيروس السيكولوجي الفتاك،ومُدخل في البرزخية الإبداعية المموهة ،مثلما أسلفنا.
نقتبس للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923 ـ 2007) م ، في عمق تجربتها مع الاكتئاب،وصدق مواجهتها له، شعريا،وبإخلاص شديد للكتابة التفعيلية، من أشهر أقوالها ،هذه الومضة:(في كلّ فؤادٍ غليَان،في الكوخِ الساكِن أحزان،في كلّ مكان روح تصرخُ في الظّلماتِ،في كلِّ مكان يبكي صوت).
من هنا نستشفّ خطورة أن يجتمع على الكائن، قدرين: الحالة المرضية على اختلاف عناوينها ومضامينها،والميزة الإبداعية، بخاصة إزاء ورطة عدم استغلال المعاناة بالشكل الايجابي الجيد، الذي يمنح المبدع عمرا موازيا رمزيا، مخوّل لاستساغة ذهنية ملطّفة للاصطدام النرجسي بصروف الدهر وأهواله المميتة.
موقع قلم رصاص الثقافي