الرئيسية » رصاص ناعم »  بَاقَةٌ مِنْ نجومِ ” التَّرَسُّل ” في الأدب العربيّ

 بَاقَةٌ مِنْ نجومِ ” التَّرَسُّل ” في الأدب العربيّ

التّرَسُّل، التّراسُل، الإنشاء، أدب المراسلات، كلهَا مصطلحاتٌ لجنسٍ  واحدٍ من الأجناس الأدبية العريقة التي أَثْرَتْ التراث العربي بمضامين نثرية حملت بين طياتها قصصاً عن الحب والصداقة والحياة والكفاح، وأَثْقَلَتْ كَـتَبَتَهَا بهموم الأرض والوطن، فتحوَلت إلى “ذاكرة” كاملة دعّمـت أبحاثاً ومناهج، فكشفَتْ أسراراً وقوَّمَتْ أفكاراً ووضعت إشاعاتٍ شتى على مسرح الحقيقة.

ولم يخفَ على الباحثين في مسألة الفنون النثرية في العصر الجاهلي، مسألةَ التنقيب عن أصول هذا الجنس في منظومة العصر الثقافية، إلا أن الدارسين في هذا المجال اصطدموا –  بعد اتفاقهم على حقيقة أن العرب عرفوا الكتابة والتدوين – بانقسامهِم إلى فريقين اثنين؛ حيث نادى الفريق الأول بضرورة تأكيد عدم وجود نثر في الحياة الأدبية الجاهلية، وأنكر وجود أجناس نثرية فنية على اعتبار أن العرب كانوا أمّييّن ولم تكن الكتابةُ شائعةً في ذلك العصر لقلّة الدواعي إليها، وجلُّ ما نُقِلَ عنهم انتقل بالمشافهة، لذا يكون الجدير هنا ألا يُعتَرف بوجود النثر في فترة ناضحةٍ بالشعر والخطابة والقَصّ.

بينما أيَّدَ الفريق الآخر وجود النثر بأرقى صورهِ في العصر الجاهلي، متأبطاً فصاحة “القرآن الكريم” وظهورهِ دليلاً على وجود أصولٍ للنثر الفني الأدبي في البيئةِ الاجتماعية معتمدين على جمالياته اللغوية والتصويرية. الأمر الذي دفع الدارسين للابتعاد وعدم الالتفات لأصول المراسلات في تلك الفترة.

في كتاب “فن التراسل قديماً وحديثاً”، أكد الباحثان عبد القادر عبد الله وعبد الحميد أسقال؛ أن أدب الترسل المتعلق بالمراسلات الكتابية يعود في أصله إلى صدر الإسلام، والحاجة إلى الرسائل توجهت إلى الأمصار المختلفة، حيث تضمنت الدعوة إلى الدين الجديد أو توجيه القادة، ليتسع هذا النوع الأدبي في العصر الأموي حتى بلغ ذروتهُ في العصر العباسيّ؛ عصر ازدهار النثر إلى جانب الشعر.

ثم ارتقى أدب الترسل في العصر الحديث من خلال أدباء مرموقين، فكانت رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة شعلةً من الوجد والحب، وقامت عليها في كتابها المعلّن تحت عنوان “الشعلة الزرقاء”، دراساتٌ وأبحاث عديدة، ليلِي ذلك تجارب كثيرة خُطَّتْ بأساليبَ أكثر تبلوراً، وحازت على اهتمام النقاد، كرسائل محمود درويش وَسميح القاسم؛ المحمّلة بهمِّ الوطن والأرض، والتي تكونت على عكس ما أتى قبلها في هذا السياق؛ بطريقةٍ اتفق عليها الشاعران على فكرةٍ أغوَتْ كليهما في مدينة استوكهولم الباردة، فقُوِّمَتْ على عكس عادة الناشرين أو الورثة؛ لم تُجمَعْ في كتابٍ، بل صممَ الكاتبان الكتاب، وراحا يخلقان له الرسائل. فكانت اللعبة مكشوفة بإرادتهما، والمعاني ساطعة، وواضحة كما لو أنها مشرعةٌ تحت ضوء الشمسِ. مدغومةً بقدر كبير من الرهافة والحذر كما في بدايتها التي شرع بها “درويش”:

“وما قيمةُ أن يتبادل شاعران الرسائل؟

كم تُبهجُني قراءة الرسائل وكم أمقتُ كتابتها! لأنني أخشى أن تشيَ ببوح حميم قد يخلقُ جوَاً فضائحياً لا ينقصني”.

الأكثر جدلاً :

لم يَحُزْ كتاب مراسلاتٍ في الأدب العربي على اهتمام بالغ كمثل الذي حازهُ كتاب “رسائل من غسان كنفاني إلى غادة السمان”، فقد أثار نشر تلك المراسلات بين المناضل الفلسطيني غسان كنفاني؛ العاشق والأديب، والأديبة السورية غادة السمان، جدلاً كبيراً قوبلَ بموجتين متضادتين كانت أكبرها موجة السُّخط والغضب لقيام “السمان” بنشر رسائل حميمية خاصة على الرأي العام، زاد من حدتها، نشرَهَا من قبل طرف واحد دون أن تظهر مراسلات الطرف الآخر؛ من غادة إلى غسان، الأمر الذي دفع النقاد لاتهام “السمان” بأنها تحاول امتطاء اسم المناضل وتسلق سلالم الشهرة على أكتاف شهرتهِ، إضافة لاستفزازاتٍ شعر بها القراء حيال التوضيحات التي وُصفت بالنرجسية، والتي أرْفَقَتْهَا غادة برسائل غسان.

في حين، أغمض فريقٌ آخر عينَهُ عن فضح المستور وآثَرَ النظر إلى المراسلات باعتبارها تحفة أدبية ثمينة؛ أضافِتْ لشخصية غسان المناضل بُعداً رهيفاً محبباً. بينما اكتفَتْ  “السمان” بتصريحٍ مفادهُ، أن قيامها بنشر الرسائل كان رغبةً مسبقة ومُبَيَّتةً بينها وبين الأديب الراحل.

خَلَقَتْ السجالات الكثيرة حول المراسلات معضلة أخلاقية، تمركزت حول براءة فعلة “السمان”، وشككت أوساط أدبية عدة بنقاء مقاصدها، لذا  تبقى الإجابات والتفسيرات مفتوحةً على كل الاحتمالات، إلا أن المؤكد أنها كعمل أدبيٍّ، بقيت إرثاً خالصاً أغنى جنس التراسل وتحفةً نثرية سطعت وسط غضب وسخط المشتغلين في العمل الثقافي، وبعيداً عن قبول نشرها من عدمهِ، كانت رحلةً عذبة بين المعاني، منعشة ومؤلمة في ذات الوقت، فهل استحقت غادة السمان؛ ابنة العائلة الدمشقية البرجوازية، كل ذاك القدر من الحب ؟؟

تبقى لنا الرسائل لغاية التنزه بين سطورها، ويبقى الجواب حبيس قلب الراحل “غسان كنفاني”، وحقّ قلمهِ الهائم بحب غادة التي صرَّحَ عنها يوماً:

“لن أطمرَ الزهرة الوحيدة في عمري هكذا”.

إحياء الزمن الجميل :

مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وعلى عكس ما أُشيعَ عن “الترسل الأدبي” أنه صار بعيداً وقيد الانطواء والاندثار تحت لواء السير الذاتية وشواغل المبدعين بالرواية والقصة، نشرت الأديبة السورية “غادة اليوسف” خمساً وثلاثين رسالةً تبادلَتها مع الأديب الفلسطيني الراحل “يوسف سامي اليوسف” ما بين عامي 2006 وَ 2011، في كتاب       “سدنة الاغتراب” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتَّاب، تبلورت فيهِ أجمل معاني الصداقة، حيث وقف الكتاب بما تضمنهُ من مواقف أدبية إنسانية اعتملت في وجدان الأديبين، لا سيما ما طرأ على الأديب الراحل “اليوسف” من اعتلال في الجسم ووغربة في الروح وعزلة الناس، لترفَّ ما بين السطور حساسيات الشعر والمرجعيات الثقافية الرفيعة للأديبين اللذان يظهران كما لو أنهما يكتبان ضد الموت نفسه، فجاء مفهوم الاغتراب، متخفِّياً بين ثنايا المعاني بأسلوبٍ سامٍ و قيمٍ تاريخية قامت على توثيق لحظات من عمر سورية وأزمتها.

خلاصةُ وجد واغتراب وعزلة؛ حبَّةُ صداقةٍ متينةٍ، وينابيعُ إبداعٍ ثرّةٍ لأديبةٍ تفتحت على الإبداع مبكراً، مترعة بإحساس عميقٍ وثراء مخيلة لا حدود لها. كلهُ، تضافر مع إبداع الراحل “اليوسف” والذي عانى النزوح مبكراً، لتُثمرَ المراسلات كتاباً رفيع المستوى، زاخراً بحرارة الفكر، وزخم الروح الشعرية، مسطوراً بلهجةٍ رقيقةٍ أخفَتْ انفجاراً عارماً لقوى لغوية ارتدت عباءة السخط على عالمٍ يضيقُ بصدر الأديب الحقيقي. لتكتمل من خلاله الصور المفتوحة على أديبين ملتزمين بقضايا الأرض الوطنية والقومية.

ومنهُ أقتبس آخر ما أرسَلهُ  الأديب الراحل للأديبة “غادة” :

16 آذار 2011 – دمشق :

إن النص الذي لا يبلغ سويداء الفؤاد لا يعوّل عليه، والنص الذي يبلغ وجدان القارئ، وصميم روحه قد نبع أصلاً من وجدان الكاتب وصميم روحه، وفي الحق، أرى الوجدان كل شيء في عالم الكتابة”.

ومع “سدنة الاغتراب” تتقلصُ وَتتلاشى أمامي آخر آثار هذا الجنس الغنيّ والعذب، الذي يدفع قرّاءَهُ وعُشاقَهُ إلى الإلحاح كما ألحّ الكاتبان “بن عبد الله” و “أسقال” على ضرورة العودة إلى أصول أدب التراسل وإدراجه في مقررات الكتب الدراسية الأدبية والعلمية في المدارس والجامعات، وإلاّ فإن غياب بريقهِ وأفول نجمه عن الآداب العربية، سيكون إجحافاً و ظلماً لهذا الموروث الخصب.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن غنوة فضة

غنوة فضة
كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري.

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *