إن الثقافة العربية في شمال إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين قد صنعت الحدث وأثرت الذائقة العربية في حقول الفكر والفلسفة والأدب ولم تعد بلاد المغرب العربي “كم الثوب” أو” ذيل الطائر” كما أطلقت عليها ذلك الوصف الكلاسيكيات المشرقية استصغارا لقدرها وإنكارا لفضلها وتم تجاوز تلك الجملة المأثورة للصاحب بن عباد لما تأمل كتاب “العقد الفريد”: بضاعتنا ردت إلينا.
الصوت المغاربي كان قويا ومعبرا عن الخصوصية الإفريقية والأمازيغية إضافة إلى الميسم العربي والإسلامي الذي وسمت به الثقافة المغاربية.
من تونس صدح الشابي برومانسيته في “أغاني الحياة” التي أعجبت “أبولو” ومن تونس طلع المسعدي برواياته حول الوجودية الإسلامية التي أعجبت طه حسين فوضع مقدمة لرواية “السد” ومن المغرب طلع صوت المهمشين والصعاليك مع محمد شكري وخبزه الحافي وزفزاف و”محاولة عيش” تلك الرواية التي كرست غلبة الواقع المتعثر على المثالية ومن نفس البلد جاءت إعادة قراءة التراث للجابري وفهمه على ضوء مقتضيات العصر ومتطلبات الحداثة ونازلت المرنيسي الفكر الذكوري عبر هندسة الجنس في المجتمع العربي كإدانة لغياب حضور الأنثى حضوريا رئيسيا لا ثانويا وصرخة ضد الهيمنة الذكورية التي أقصت الأنثى واعتبرتها ظلا للرجل وآلة للإنجاب وشغالة في أحسن الأحوال.
الخصوصية الجزائرية في الثقافة العربية هي الهيمنة الاستعمارية التي جعلت من الجزائر حالة خاصة في المغرب العربي فالحماية التي خضعت لهما تونس ومراكش أيسر بكثير من الاستعمار الذي خضعت له الجزائر طيلة 130 سنة حاول فيها الاستعمار تدمير الروح الوطنية والخصوصية العربية والأمازيغية في نفس الوقت لصالح دوغمائية كولونيالية مزورة لا علاقة لها بالحقيقة التاريخية “الأمازيغ أحفاد الأوربيين” ومن ثمة كان الصراع من أجل تقويض تلك الأوهام عبر الكلمة واللحن والسلاح أخيرا فكانت البدايات أدبية فرنسية اللسان جزائرية الملمح أمازيغية البصمة في روايات كاتب ياسين “نجمة” وثلاثية محمد ديب” الحريق” و”النول” و”الدار الكبيرة” تلك الثلاثية التي تؤرخ للتهميش والعزلة والفقر الذي خضعت له الأسرة الجزائرية في المحيط الاستعماري في الأربعينيات وبداية نشوء وصعود الحركة الوطنية التي بدأت النضال سياسيا وختمته بالسلاح في الخمسينات .
البصمة الأمازيغية حاضرة في الأدب الجزائري فالبعد الأمازيغي بعد رئيس في الشخصية الجزائرية وهذا ماتكرسه روايات مولود فرعون “ابن الفقير” ورائعة محمد ديب” الدروب الوعرة” التي أثنى عليها طه حسين كثيرا وكتب عنها.نفس الروح الأمازيغية والوفاء للمكان ظلت قارة في أدب بعض الذين التحقوا بالضفة الأخرى وعاشوا في فرنسا حتى مماتهم كجان عمروش وطاوس عمروش.
كثيرا ما طرح سؤال هل يمكن اعتبار هذا الأدب الجزائري المكتوب باللسان الفرنسي أدبا عربيا كونه يتناول هموم جزائرية في زمان ومكان جزائريين لكن اللسان فرنسي؟
بعضهم لا يرى مانعا في ذلك وبعضهم له اعتراضات فاللغة طاقة شعورية وإيحاءات ورموزتاريخية لا يمكن لغيرها نقلها.ويصر على انه أدب جزائري أو عربي بلسان فرنسي.
لم يغب الأدب الجزائري المكتوب بالعربية فبعض الكتاب تعلموا بالمشرق وأتقنوا لغات أجنبية فكان لهم إلمام بالأدب العالمي ووعوا الظروف الخاصة للجزائر المستقلة ذاك البلد الطامح إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والرخاء بعد 130سنة من المعاناة مع المستعمر الفرنسي فكان أدبهم تعبيرا عن ضرورة قيام مجتمع اشتراكي حيث أن الاشتراكية هي الشكل الأنسب لإحداث ثورة ثقافية واقتصادية وزراعية مستلهمين من التجربة الروسية والصينية الإيديولوجيا ومن الأدب الروسي خاصة آليات وتقنيات التعبير فكان روايات الطاهر وطار” اللاز” و”الزلزال” وعبد الحمديد بن هدوقة” ريح الجنوب”.
إذا كانت النصوص السردية حظيت بإعجاب مشرقي وتم طبعها مرارا في المشرق فإن النصوص الشعرية لم تنل ذلك الحظ ولم يمكنها المنافسة مع المشرق بسبب الضحالة أحيانا أو ضعف الأداة أو روح التعبئة والموعظة التي نأت بالشعر أن يكون شعرا كما يتجلى في ديوان محمد العيد آل خليفة باستثناء شاعر الثورة مفدي زكريا الذي كان شعره تعبيرا عن رسالة الشاعر في التعبئة وقتما يحتاج وطنه لهذه التعبئة في حالك الظروف من خلال ديوانه” اللهب المقدس”.
لكن شاعرا جزائريا غمط حقه ولم ينل اهتماما نقديا فقد كان منكود الحظ مع أنه شاعر كبير رغم أنه مات شابا منتحرا في أغلب الأحوال في باريس عام 1943 هو مبارك جلواح فهو بحق رائد الرومانسية في الجزائر من خلال ديوانه” دخان اليأس” وقد سعدت كثيرا وأنا أنجز عنه موضوعا نقديا مهما حظي بالاحترام ونشر بالمغرب والمشرق وعنوان تلك الدراسة “مبارك جلواح رائد الشعر الرومانسي في الجزائر”. ونشرتها عبر مجلة ثقافات وعبر موقع اتحاد الكتاب الجزائريين.
في الجانب الفكري لا يمكن القفز على اسمين كبيرين حاولا تقديم الحلول لإشكالية التخلف وكيفية الإقلاع الحضاري للجزائر وللعالم العربي برمته نفس الهم الذي حزب الأفغاني والكواكبي طه حسين ومحمد عبده وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وبرهان غليون وغيرهم فأما الأول فهو الأستاذ المرحوم مالك بن نبي وهو بحق مهندس حضارة قبل أن يكون مهندس كهرباء وهو أحد الضالعين في الثقافة الغربية ولمصر فضل على الأستاذ مالك فعبرها بدأ يكتب بالعربية وعبر ترجمات عبد الصبور شاهين قرأ العالم العربي مؤلفات مالك بن نبي في سلسة مشكلات الحضارة “ميلاد مجتمع” “شروط النهضة” “الفكرة الإفريقية الأسيوية على ضوء مؤتمر باندونج” “الظاهرة القرآنية” وللأستاذ اللبناني عمر كامل مسقاوي وهو صهره فضل في توالي إصدار مؤلفات الأستاذ مالك عبر دار الفكر.
اشتهر طرح مالك بتلك الصيغة المشهورة لنشوء الحضارة: (إنسان +زمن + تراب = حضارة) مع التأكيد على الجانب الوجداني العقيدي المحفز تلك القوة التي هي الإيمان والتي تدفع إلى التضحية والبذل في سبيل الفكرة هي الدين كما نفهمها في المحيط الإسلامي وهي العقيدة في سائر المجتمعات لكن مالك بن نبي لم يعطنا الصيغة التي نتعامل بها مع المعطى التاريخي التراثي فهو يطرح جملة من الإشكاليات في القراءة والفهم والتطبيق سواء في تفسير النص القرآني أو مصداقية الأحاديث النبوية –أمام الكم الكبير من الموضوع- وعلاقتها بالواقع وجدواها وفهوم علماء الإسلام مفسرين ورواة أحاديث وشراح عقيدة وكتاب تاريخ زخم تراثي كبير جدا يتاخم عقولنا ووجداننا وربما شكل في بعض جانبه عقبة في سبيل النهوض والارتقاء .
تلك المسألة التي بدأها الشيخ محمد عبده عبر “رسالة التوحيد” ثم طه حسين في “الشعر الجاهلي” و”مستقبل الثقافة في مصر” وزكي نجيب محمود في “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” ثم “محمود أمين العالم وبرهان غليون وعلي حرب ومحمد عابد الجابري وأدونيس وغيرهم وبيت القصيد في ذلك كله أن أصل إلى المفكر الجزائري محمد أركون صاحب الصيت الذائع والذي كانت له مساجلات ومجادلات مع كلاسيكي الإسلام والمستشرقين على السواء فهو منبوذ من الطرفين ومؤلفاته الأكاديمية ترجمت إلى جل لغات العالم وأهمها” الفكرالإسلامي” “النزعة الإنسية في القرن الرابع الهجري” ولهاشم صالح فضل كبير في تعريب مؤلفات أركون فهو أحد حوارييه وباختصار فطرح هذا المفكر الجزائري لمشكلة التخلف وكيفية النهضة في التعامل مع التراث الإسلامي هو اعتبار الثقافة الإسلامية برمتها سواء كنصوص مقدسة وشروحات معطى تاريخيا خاضعا للشروط الزمكانية ومن ثمة إضفاء المرونة في التعامل معها لصالح الحداثة.
ولا تحظى قراء أركون بالقابلية لدي قطاع عريض من المثقفين العرب بسبب هذا الطرح الذي يلح على التاريخانية في الفكر الإسلامي نصا وفهما.وربما للجانب السياسي دور في ذلك فالأنظمة الشمولية والاختلال الطبقي وهيمنة الأحادية السياسية والاقتصادية والفكرية تشجب مثل هذا الفكر الذي يدعو الى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية كشرط للوجود الإنساني وفي المحصلة. فالفكر التنويري يعاني من التكتلات السياسية والدينية والاقتصادية التي تبقي الفاعلية في يد عدد محدود من الحكام وشراح النص المقدس والقابضين على دواليب الاقتصاد.
كاتب وناقد جزائري | مجلة قلم رصاص الثقافية