رحل أمس في دمشق محمد محفّل (1928- 2019) أحد أبرز المؤرخين المعاصرين لتاريخ بلاد الشام، متكئاً على مخزون معرفي عميق في إعادة كتابة التاريخ العربي على نحوٍ مغاير، بتخليصه من شوائب الخرافة والأسطورة، بناءً على مرجعيات تاريخية أتاحتها له معرفته باللغات الآرامية والإغريقية واللاتينية، وتدريسها في الجامعات. فهذا مؤرخ خرج من المتاحف إلى فضاء الحياة اليومية، معززاً حضوره بدراسات نوعية وضعت التاريخ القديم في أتون اللحظة الراهنة لجهة تقليب الوقائع وتمحيصها بعيداً عن الركام، وردم المسافة بين ما هو تاريخي صرف، وما هو مزيّف. هكذا أعاد الكنعانيين إلى أصولهم الفينيقية، وأعاد «أورشليم» إلى اسمها الكنعاني، ناسفاً مزاعم المرويات التوراتية والأحقاد الإغريقية والرومانية ضد الفينيقيين وحضارة قرطاجة ابنة «صور» الكنعانية. خلّف المؤرخ الراحل عشرات الدراسات المهمة، خصوصاً في مجلة «دراسات تاريخية» التي كان يديرها لسنوات، كما كان عضواً فاعلاً في لجنة «مشروع كتابة التاريخ العربي: كيف كُتب، وكيف يُكتب؟»، بالإضافة إلى كتبه عن تاريخ اليونان، وتاريخ الرومان، و«دمشق الأسطورة والتاريخ: من ذاكرة الحجر إلى ذاكرة البشر».
في قراءة تاريخ دمشق يقول «دمشق- داخل الأسوار- هي التاريخ السرمد، ومنازلها وخاناتها وحمّاماتها هي متاحف نابضة بالحياة. هنا السرد التاريخي لا مكان له، ولا مجال، ولا مغزى، فالصيرورة الحيوية المتجدّدة/ الأزلية هي التاريخ والمتحف». غاب محمد محفّل بشاربيه الأبيضين وحضوره المرح، كآخر حرّاس تاريخ دمشق الحيوي.
الأخبار اللبنانية