يجمع اللسان العربي في جذر واحد وهو (ر و ع) بين معنيين، الروع وتعني الفزع (هدئ من روعك)، والرائع (جمال رائع) التي تعني الجميل لدرجة كبيرة، فهل عملية الجمع بين هذين المعنيين ممكنة؟ في الحقيقة هو كذلك، فالمختصين بالنظرية الجمالية في بعض المدارس الفلسفية يصطلحون على معنى الرائع على أنه الجمال الآخاذ الذي يمتلك عليك نفسك فلا تعود تجد فكاكاً منه، ولا تقدر أن تتحكم بردود فعلك. في مقابل مصطلح الجميل الذي يدل على جمال عادي تشعر بالسرور لرؤيته لا أكثر أي تبقى نفسك مستقلة وحرة وتستطيع أن تتحكم بردود فعلك، بعبارة أخرى يوجد في مصطلح الرائع جمع بين الجمال والخوف، لقد أبدع اللسان العربي في ذلك. لكن ما يمكن لنا أن نستنتجه من هذا الربط؟ ما توصيف النفس البشرية التي تربط بين الجمال والخوف؟ في أقصى درجات الجمال يميل اللسان العربي إلى تفضيل الانسحاب من هول الجمال طالما أنه ربط بين الخوف والجمال، ولم يربط بين الجمال والمحبة. وطالما أن السلوك الأكثر ترجيحاً للخوف هو الانسحاب، في حين تكون المسألة مختلفة في الدرجات الدنيا من الجمال.
في رواية “الأبله” لدوستويفسكي قال الأمير ميشكين في حديثه عن أناستاسيا فيلوبوفنا رائعة الجمال إنه إنما يخاف منها، فما السلوك الذي يمكن أن نتوقعه من هذا الرجل أمام هذا الجمال الآخاذ، الذي شعر بالخوف والرهبة من جمالها؟ المتوقع حسب التحليل السابق أن ينسحب، أن يهرب، ربما لأنه شعر بضآلة نفسه، أو ربما يكون قد توقع خاتمته. وهي الموت إذ إما أنه سيموت دفاعاً عنه، أو سيموت فداء له، أو سيموت ذوبانا فيه، أو سيموت منه إذا هجرته، فماذا سيفعل؟ هل ينسحب أم يقدم؟ والأمير ميشكين رغم كل هذا فضل الموت فيه ذوباناً، فكانت نهايته الجنون.
ما الخطأ في الانسحاب أمام الجمال أو الخوف أمام الجمال؟ فالرجل الذي قرأ الاحتمالات التي تنتظره، وقرر أن ينسحب من البداية، ألا يتفق مع شاعرنا الكبير نزار قباني عندما قال: لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت؟
أولاً: إن حبه حب ضعيف، إذا افترضنا أنه أحب هذه الفتاة الرائعة حقاً، فيجب أن يكون حبه أقوى من الخوف.
ثانياً: هذا الرجل يرى أن الموت نهاية، وليس بداية جديدة، سواء أكان دفاعاً عنه أو منه أو فيه. لكن رجل آخر يمتلك الشجاعة يقول: فلتكن النهاية، لا ضرر في هذا. إن الموت ولادة جديدة أو ربما يقول: إن الحياة لا تستحق العناء أو التمسك فيها.
ثالثاً: هذا الرجل يرى ان الحب امتلاك وليس فاعلية. ومن يمتلك محبوبه يحوله إلى موضوع جامد فاقد للحياة أي فاقد للتلقائية والمبادأة والاستقلال، بكلمات أخرى لا يحق له أن يتصرف على أي نحو إلا بموافقة المحب ورضاه، وفوق هذا يخشى أن يفقد هذا الموضوع سواء أأخذه غيره منه أم أراد هذا المحبوب نفسه أن ينهي هذه العلاقة ويغادر.
أما من يرى الحب على أنه فاعلية، فيحترم استقلالية محبوبه ويرعاه حتى يكون كما يتمنى، ويكون مسؤولاً عنه ومهتماً بكل ما يتعلق به، وبهذا فإن الحب بوصفه فاعلية، ينبع من داخل كل منهما، بصورة فياضة تلقائية، لا دخل لاشتراط الظروف الحسية به، ولا خوف عليه من التدخلات الخارجية، بل إن الرجل المقدام هو كذلك، لأنه يحب أكثر مما يخاف، إن الحب يصنع المعجزات لأنه يدفع الرجل إلى مواجهة أخطار أكثر مما يسمح به العقل ربما. باختصار تصبح المعالجة الفكرية للحب ذات مسار مختلف، ويصبح هنا لقول القباني مدلول ضعيف، لأن العاشق ذو الفاعلية يقول: ولو عرفت خاتمتي لبدأت، لأن نهايته من اختياره هو، وليس هذا فقط، بل إنه سيعيد اختياراته هي هي بالتفصيل من دون تغيير، لأنه لن يكون شخصاً آخر غير نفسه.
كيف يكون الرجل نفسه، لا زيادة ولا نقصان؟ عليه أن يعيش ما يشعر به حقيقة أن يقول أفكاره هو، فلا يحاول أن يدعي الحب وهو غير كذلك، ولا يحب من يفرضها عليه الآخرون. لأنه يعلم أنه بكل تفصيل عاشه أو فعله إنما فعل الأقصى، وعاش على الحدود، الحدود التي تسمح بها قدراته، واستمتع بكل صغيرة وكبيرة في حياته، إنه يشعر بالرضا لتحقيق مصيره، قانع به حد التطابق؛ أي لم تبقَ لديه إمكانية أو قدرة لم يستنفدها حتى الأقصى.
بحيث تصدق المقولة الشعبية عاش حياته بالطول وبالعرض، أي بالاتجاهين العمودي والأفقي: فالرجل الذي عاش حياته بالاتجاه الأفقي، هو من استنفد جميع إمكاناته، لكنه لم يطور إحداها إلى الأقصى، بينما من عاش بالاتجاه العمودي، فهو من استنفد إحدى تلك الإمكانات فقط إلى أقصى ما تحتمل.
مجلة قلم رصاص الثقافية