مِن مساوئِ أن يَرميكَ القدرُ بين طيّاتِ أرضٍ عربيٍّةٍ؛ أن تُدركَ منذ ساعة ولادتكَ، أنَ أمامَكَ على هَذَا الكَوكَبِ أَكْثَرَ منْ طريقةٍ ملائِمةٍ للغَرقْ؛ أنْ تًستًيقظَ على سبيلِ الحال، ومَرْطَبانُ بُنِّكَ فارِغٌ، ليُصبحَ فنجان القهوة، وسيلةُ هروبكَ الوحيدةِ من هذا الكوكب، ضرباً منْ الخيال، فتَهوي نحوَ حَتْفِكَ مستسلماً، بِحذائِكَ المُمتَلئِ بالخَيْشِ وَالُّصُّبَّير، وَتَركُنَ إلى مكتبِكَ مكدوداً، حيثُ تعمَلُ ساعٍ للعبيدِ في فتراتِ ما بَعْدَ القَهْر؛ ترسلُ مراسيلَ العَتبْ منَ عاشقاتٍ تائِهاتٍ، وَتَستَقبِلُ أخبارَ الهَمِّ القَادمة منَ الحاناتِ والمنافِي، وتعودَ مكدوداً بعدَ أن يتحوّلَ جسدكَ إلى حجرٍ، فتطهوَ طعامَكَ ذاتَه، في التّوقيتِ ذَاتِهِ، وَعلى نَارِ قَلْبِكَ المُتَفَحِّمِ ذاتها.
أنْ يَغوصَ – كُلَّ عصرٍ – قرصُ الكَآبةِ البيزنطيّةِ في قاعِ البحر على شرْفَتِكَ ذاتِها، وَشِعْرُكَ مَعقودٌ مَقْفُولٌ بآنيةٍ تَضجُّ بالعسلِ وَالقَطْرانِ. أنْ يُباغِتَكَ صوتُ فيروزَ مثلَ موتٍ، بينمَا تَمشي شاحباً غريباً على رصيفِ مدينتكَ التي لمْ تعدْ تتعرّفُ إليك، وَتبصِرُكَ نَوافِذُ الكريستال العملاقةَ، تقبِضَ على تَلَبُّسِكَ، وَتُشْعِرُكَ بِقَشعريرةٍ رهيبةٍ. أنْ تبحثَ فيها عَنْ سُحْنَتِكَ الضَّائعةِ، وَتُفَتِّشَ “عنكَ ” بين الوجوهِ الغَريبةِ، ومرايا السَّيّارات، لتجدَ نفسَكَ صغيراً مُدقَّقاً أَمامَهَا، أكثَرَ منْ مُقَدِّمةٍ مُدَبَّبَةٍ لأرنبٍ صغيرٍ.
أنْ تَصْدُفَ بائعَ الوردِ؛ نائمَاً كَطِفلٍ، مركونَاً إلى سَلَّةٍ منَ العوسجِ وَالطَّيُّونِ؛ يغفو غفوة لوركا، يغْفُو غَفوةَ التُّفَّاحِ، بِزَهرتَين مُغلقَتَيْن، وَعيْنَيْنِ تَذرانِ غبارأً أسودً، وصُوراً مُتَفَحِّمَةً، لأجسادِ أطفالهِ المُتَفَحِّمة اليانِعة.
وَأيضاً، منْ مساوئِ أنْ يرميكَ القدرُ بين طيات أرضٍ عربية، أن تدركَ أنّك لا تمتلكُ من هذا العالم سوى طريقةً واحدةً مُلائمةً للنَّجاة؛ أنْ تَمتَهِنَ الجنون، وَتَرقُصَ أنَّى تشاءْ، وَحيثُ تشاءْ. أنْ تقْرِضَ الشِّعرَ بانتِشاءْ، وتتعلّمَ فنونَ الغَرقِ وَأُصولَهُ حتّى تتعَفَّنَ بالفنِّ إلى قِمَّةِ أُذُنَيكَ.
أنْ تقِفَ على رأسِ لوحةٍ نادرةٍ واثِقاً باستحالةِ سقوط هوسِك أمامها؛ عارفاً بانعدام إصابة فضولكَ المَائلِ نحوهَا بانقراصٍ في الفقَراتْ.
أنْ تَتَمَسَّكَ بِقُبَّعَتِكَ جيداً في بلادٍ لا تَرفعُ القُبَّعاتِ إلاَّ لسلاطينِهَا، وَتُميِّزَ رائحةَ “العِطْرةِ” بينَ كومٍ منَ الأعشابِ البريَّة، وَتكونَ الغَريبَ في مَطبَخٍ غربيٍّ أنشأَهُ مهاجرٌ منكوب، الغَريبَ في بلدكَ، القادرَ على التَمييزِ بينَ أطباقِ “الهالبينو” المطبوخةِ على البُخارِ، وَقُدُورِ النَّكَباتِ العَربيّةِ المُسيلَةِ للدُّموع.
أنْ تتيقَّنَ عندَ المساء، أنّك لستَ إلا قافيةً هامشيةٍ لقصيدةٍ يكتبونها بأقلامٍ هُلاميّة، ووَزناً مُتدَارَكَاً، ربّما بقلمِ أخفشٍ جديد، لِنَسقٍ موسيقيٍّ زائدٍ في بحور الحياة العروضية، وتتعلّمَ أنكَ لا تمْلُكُ لنفسكَ إلّا أنْ تُهْمِلَ منْ دِماغِكَ، المشحونِ بالتَّوتّرِ والنُّوقِ المَنْحورةِ، رحلةَ البحثِ عنْ شيفْرَة ” النَّجاةِ وَ الغرق “، وتهبِطَ إلى جَارِكَ البَقَّالِ؛
تُلْقِيْ عليهِ تحيةً،
وَدَمعَتَينْ،
وَثَلاثَ زهراتٍ، وَتَصْعَدَ، لِتَمْلأَ مَرْطَبَانَ بُنِّكَ الفَارغ.
* الأخفش : هو تلميذ أبي خليل الفراهيدي وواضع البحر السادس عشر – المتدارك – في بحور الشعر العربي.
مجلة قلم رصاص الثقافية