أنعي لكم ميراثي اليتيم، دكان صغير لبيع الملابس الأوروبية البالية، إنها المهنة الوحيدة التي أورثني إياها والدي ذو الستين عاماً، واحد ممن استساغ المتوسط أجسادهم قبل الوصول لسواحل إيطاليا، أنعي لكم جامعتي، كتبي، حبيبتي المهاجرة وأمي التي انتقلت إلى السماء قبل أن تكتفي عظامي الهشة من لبنها، لا شيء يدفعني للطمع بالمزيد، القائمة السوداء شملت مدينتي الخاوية فاغتيلت الأحلام وهُجِرت الأرحام.
علبة سجائري قضت صريعة في ساعات قليلة، الظلام الحالك، وأكوام الملابس القادمة من أوروبا كانت تخيّم على كل شيء، جميل أن نصدّر شبابنا ونستعيض عنهم بثياب نستر بها عورات من آثروا البقاء هنا، يا لها من تجارة رابحة!!
أقطن دكانتي منذ سبع سنوات خلت، أتناول طعامي، أنام، أصحو، أستمع إلى نشرات الأخبار، أبيع وأشتري وأراقب زبائني وهم ينبشون في أكياس الملابس دون أن أفكر بتقديم المساعدة لأي منهم..
رواد مخازن الثياب البالية لا يطيقون مساعدة من أحد، جاؤوا لينبشون كالقطط الجائعة، لا طائل من ذلك، قال أبي ذات يوم و أتبعها بضحكة طويلة…
أفاد مراسل قناة تلفزيونية اليوم بأن الهدوء يخيّم على جبهات القتال ولم يسجّل سقوط أي قذيفة صاروخية في دمشق، الحظوظ مواتية، وخبيرة الأبراج تركت لي رسالة جميلة تبشرني بأن نهاراً متميزاً بانتظاري.. أخبار سارّة!! باستطاعتي الخروج في نزهة موفقة إذاً..
لم أعرف يوما بأن النسائم المصحوبة بأرواح الآلاف قد تحمل كل هذا الحنين، أسير مثقلاً بالخيبات وصيحات مئذنة بني أمية تهزني كريشة ضائعة، أتناول في يدي رسالة حب منحتني إياها حبيبتي في البلاد البعيدة قبل أن ترحل عن الشام بأيام.
معطفي الثقيل، أحلامي، آلامي، قبعتي، صوت أبي، كيف لي أن أحلّق؟ إني مليء بكل شيء حتى الثمالة، اقتربت من الحمامات، أخفضت قامتي وفي يدي بضع لقيمات من الخبز المبلل بدموع ثكلى، تستنزل الرحمة لطفلها الراحل في غوطة دمشق.
اقتربت من الحمامات وتمتمت بحرقة: خذوا قليلاً من حزننا وقهرنا، ظننتهم سيعجزون عن الطيران بعد ذلك، لكن توقعاتنا لم تكن إلا كأحلامنا، عصيّة على الانتقال لساحة الوجود، ليتني خلقت عصفوراً، ليتني ارتقيت للسماء قبل هذه المأساة !!
ترامى إلى أذني صوت بعيد، استطعت تخمينه، إنه اصطكاك كعب نسائي بالأحجار المرصوفة في مدخل سوق الحميدية، لم يدفعني فضولي للبحث عن مصدر الصوت إلى أن اقترب مني كثيراً وتوقف على نحو مفاجئ..
فتاة جميلة، بشعر كثيف أسود، لامس بنهاياته حدود صدرها المنمّق، طويلة للحد الذي جعلني أقع في لجّة التفريق بينها وبين مئذنة العروس الواقفة خلفها تماماً، لم تكن بدينة ولا نحيلة، ممتلئة بشكل مثالي، كلٌ في مكانه الصحيح، ولأنني أعشق التفاصيل الصغيرة فقد أمضيت وقتا يسيراً في الاستماع لموسيقا أصابعها وهي تحاول أن تمارس رياضة “الطقطقة”، وعلى قدر جمالها، أظن البؤس لم يجد مكاناً أفضل من المكوث في ملامحها.
فكرت، المهن تؤثر في أصحابها وقد تستحوذ على تفكيرهم وأحكامهم، فالحلاق مثلاً، يصنع انطباعاته من تسريحة الشعر، وطبيب الأسنان يصنعها من ابتسامة هوليوود الشهيرة، أما تجار الأثاث فيصنعونها من قدرتهم على تثمين الكنب والأسرّة والستائر، ولأن الملابس كفكفت دموعي حيناً وكانت نديمتي في الكثير من أكواب الشاي التي تعرقلت بها أقدام العفاريت التي شاطرتني العيش في دكانتي الصغيرة حيناً أخر، فكان إمعان النظر في ثيابها بادئ رحلتي الانطباعية عن مرجعيتها ومعتقداتها التي نشأت عليها أو صفعتها، لكنها كونتها على أية حال..
ولخبرتي المتواضعة في هذا المجال فقد استطعت أن أقدّر أنها قد حصلت على ثيابها من متاجر ضخمة، عادة ما يقوم أزلام الطبقة الارستقراطية بارتيادها، تباركها السماء إذ أنها تحمل أسماء ماركات عالمية !!
ولكنني تساءلت ! لمَ كل هذا البؤس؟ كنت كل حياتي أومن بأن المال يجلب السعادة، إنها المرة الأولى التي أصادف بها ثرياً بائساً !
مشيت بخطى ثابتة نحوها، نظرت إليها فأعادت الكرّة من جهتها، لم تنطق بأي حرف، لقد جرت العادة أن نقوم باستهلال الأحاديث الكبيرة بسؤال عمومي، في غالب الأحيان، لا يتعلق بالسبب الحقيقي الذي دفعنا للتكلم هكذا و على نحو مفاجئ.
ـ أنا بائع ملبوسات، ولا أخفيكِ سراً، فقد استوقفني ذوقك الرفيع في انتقاء ثيابك، ابتسمت ولكنها لم تجب!
مشيت بضع خطوات نحو الأمام، فسارت بجانبي، شكرت الله، لأنني تخلّصت من الشعور بتفاهة سؤالي الذي قوبِل بالصمت، مشينا هكذا لوقت ما يصعب عليّ تحديده، فالحقيقة أن الوقت لا يدخل في معادلة تتعلق بالسعادة أو الرضا، إننا نعد أيامنا السوداء فقط، أما البيضاء منها فتذوب سريعاً، تماماً ك كيلوغرامات السكر التي تطير هكذا كالهواء يومياً في ابريق الشاي اللعين خاصتي.
ـ هل تودين الذهاب لمكان ما؟ يمكنني مساعدتك في الوصول قبل أن أتوجه للعمل.. ولكنها لم تجب..
ـ عفواً يا سيدتي، إني ذاهب إلى العمل، هل ترغبين بالذهاب معي !! لم تجب أيضاً..
فكرت، أيّ لعنة تلك التي حلّت علي؟ لعنة الله على خبيرة الأبراج !! الحظوظ مؤاتية؟ أي حظوظ تلك التي جمعتني بفتاة لم تصلها ثقافة النطق؟!
هاتفي الجوال يطلق صافرة واتساب جديدة، أفكر، ما السبب الذي جعل شركة تصنيع الهواتف الذكية أن تختار صوت الصافرة للدلالة على وصول رسالة جديدة، كان يجب عليهم أن يفكروا قليلاً بتعديل صوت تنبيه الرسائل الخاصة بسكان الشرق الأوسط ، لتكون صافرة إنذار مثلاً.. أو صافرة قذيفة على وشك السقوط …
إنها رسالة من رئيس تحرير مجلة عالمية تصدر في بروكسل، يستفسر فيها عن سبب غياب منشوراتي في الآونة الأخيرة، فكرت..
يا سيدي، لقد استنزفت بلادي كل كلماتي، أكتب لها و عنها، أستورد بضاعة رخيصة لأستر بها أجساد من تبقى منها، أجد ذاتي تهرب نحو هذا الدفء، لقد نذرت نفسي وكتاباتي وتجارتي وكل شيء لهذه الأرض المتعبة !! وأرسلت ..
ماهي إلا دقائق معدودة حتى جاءني الرد مستعجلاً : اكتب أينما شئت.. و كيفما أردت، وعندما تجد نفسك مشتاقاً لثلوج بروكسل، دع كلماتك تمنحنا قسطاً من الدفء !!
لا أعلم ما الذي دفعني لقراءة رسالته بصوت مرتفع، نسيت أن امرأة تسير بجانبي، يالها من امرأة !!
وعندما وصلت لدكاني الغبية، طلبت منها الدخول، راحت تراقب المكان بغرابة، وكأنها تبحث عن شيء ما، جلبت لها كرسي فجلست عليه وشربت القليل من الشاي، سألتها : ما الذي يدفعك للصمت هكذا ؟
لقد مضى ساعتين أو أكثر ولم تنطقين بحرف واحد !! هل يمكنني تقديم المساعدة ؟
أخذت في ترتيب طاولتي عندما استمر مسلسل الصمت مجدداً، يا إلهي، لم أقم بتنظيف طاولتي منذ سنوات وضحكت، لعنة الله على النساء إذ يدفعن بالرجل للتنازل عن عاداته لمجرد رغبة عميقة في النفس لا أحد يدرك ماهيتها، صوت بكاء مفاجئ، لقد قمت بتحريك عينيّ بطريقة ماكرة يكون عقلي من خلالها قادراً على تكوين صورة ثلاثية الأبعاد لوجهها، كانت تبكي، اقتربت نحوها محاولاً أن أستوعب ما يحدث فانتفضت واقفة وابتعدت بضع خطوات للوراء، فتحت حقيبتها، أخرجت منها بضع أوراق تركتها على طاولتي، ثم أخذت قلمي المركون في دفتر الحسابات، دوّنت بضع كلمات في الصفحة الأخيرة وخرجت بسرعة..
الفضول الذي يدفعني كل مرة لقضاء ليلة كاملة في الدكان لتدشين افتتاح أكياس البضاعة الجديدة، باغتني مرة أخرى، ولكن .. وفي هذه المرة، كان الأمر متعلقاً بقراءة مضمون هذه الأوراق..
“عندما يولد العصفور، يسكن أصغر في بيت يمكن أن يراه الإنسان في حياته، يكبر شيئاً فشيئاً ويمضي أيامه وهو يقتات على نثرات الخبز والحبوب التي قد تحظى به أمه من هنا وهناك، وعندما يصبح قوياً وقادراً على الطيران وتأمين احتياجاته بمفرده، يهجر العش ويرحل في البلاد الوسيعة، يصبح حراً !
هذا حكم الطبيعة على الكائنات الحية، لكن مأساتي تمرّدت على قواعد الطبيعة، خرجت عن حكمها، مأساتي هي مأساة الآخرين، والمأساة تجر المأساة..
تحررت قبل ميعاد حريتي، الاقتتال الدامي وحرب السبع سنوات استطاعت بحنكة أن تقضي علينا والمصنع الذي كنا نقتات من وارده، والدي هجرنا منذ سنوات وتزوج فتاة في مطلع العشرينات من العمر بعد أن جبرتها الحرب على ترك منزلها والانتقال لمكان أكثر أمناً في حيّنا المأهول.
أما والدتي، فقد رمت بي من العش قبل أن أحلّق، لقد جرت مراسم تسليمي إلى أربعيني جشع بطريقة رخيصة جداً، اللقيمات التي تسد رمقي أصبحت تشكل عبئاً على والدتي وإخوتي الصغار، كان أكبر مني بعقدين أو أكثر، بل أكبر من البراءة التي تسكنني، عندما انتقلت لعشه، خلع عني ملابسي بوحشية وضربني، استمر في ضربي كل ليلة و على مدى شهور عدة، إلى أن استطاع أن يسلبني براءتي، عذريتي، ولساني..
لطالما راودتني فكرة الهرب، إنني مؤمنة بالفلسفة التي تسوّغ للإنسان مغادرة الحكاية فيما لو حرمته حق الابتسامة، كثيرة هي المسميّات التي ستطلق عليّ فيما لو هربت، متزوجة غادرت “القفص الذهبي” وهربت ، سينعتونني بالخائنة، سأُلام أشد اللوم لأن مجتمعاتنا لا يرون من الأمر إلا ظاهره، حتى و إن دهست بقدميّ كل كلام الناس ونظراتهم، إلى أين سأهرب ؟ من سيؤوي فتاة متزوجة هربت من زوجها ؟ لا أحد !!
لكنني، وفي أكثر اللحظات قوة كنت أقول: مهما يكن، فلن أرتدي الثوب الذي لبسته السيدة هيستر براين ولن يستمد الغرباء أحكامهم من الشارة القرمزية اللامعة !
كنت أتحمّل جلسات الضرب المبرح كل ليلة دون أن أنطق بكلمة واحدة، أعرف تماماً بأنني لو نطقت، سيزداد معدّل الضرب بعنف أكبر.
دقت الساعة العاشرة، جلست في زاوية الغرفة، لقد اكتسبت خبرة لا يستهان بها في اتخاذ الوضعية المثلى لتفادي ضرباته مع اقتراب موعد وصوله إلى المنزل، بقيت أثبت نظري تجاه باب المنزل لساعات، زمور الخطر يتمثّل إلي بصوت دخول المفتاح في قفل الباب، لكنه لم يأت !!
تلاحقت عقارب الساعة بشكل بطيء جداً، لابد و أن الانتظار قد أبرم اتفاقاً مع الزمن لإعطاء كل دقيقة حقها في المرور بالشكل الذي يحلو لها، يوم، يومين، ثلاثة، لم يأت !!
أنا البكماء، لقد نظِّم عقد زواجي على مهر معجّله كلامي، ومؤخره .. مأساتي التي لن تنتهي !!
وما هي إلا أيام قليلة حتى قرع جرس منزلي، نظرت من منظار الباب بعيون مترقّبة، شاب ببزة عسكرية، يبلغ الثلاثين من العمر تقريباً، كان قد أخذ في يده دفتر كبير وقلم أزرق من نوع “بيك” ..
حاولت أن أجد وسيلة للتواصل أخبره من خلالها بأنني لا أستطيع النطق، أخبرني بأن زوجي قد سيق من إحدي الحواجز الأمنية للالتحاق بصفوف الجيش والقوات المسلحة بعد أن تمت دعوته للخدمة الاحتياطية وقد استشهد أثناء تأدية معركة من معارك “الشرف” في بقعة بعيدة من الأراضي السورية ..
سنقوم بتسليمكم جثة الشهيد خلال فترة أقصاها عشرة أيام، ذلك ما استطعت اختزاله من المقدّمات التي حاول الجندي البائس ترتيبها قبيل إعلامي بنبأ استشهاده، و طلب مني أن أوقّع على تبليغي بنبأ وفاته ..
ذُهِلت للحظة الأولى، ميتة شرف ؟! هل يشرّف الموت إنساناً شريراً مهما كانت تلك الدوافع التي جعلته يحارب ويموت من أجلها !
لا أعلم ..
لقد مضى عاماً على موته تقريباً، لن أعود إلى العش الذي دفعني نحو الخراب، أعيش وحيدة في تلك الزاوية الآمنة من منزلي المتواضع، وعلى الرغم من الأعداد الهائلة لأوراق الروزنامة التي قامت النيران بالتهامها، ما زلت أخاف أن يعود في يوم ما بطريقة أو بأخرى، كأن يأتيني في الحلم مثلاً، أو أن تستطيع روحه مغادرة الآخرة والتسلل إلى زاويتي !!
أخرج كل يوم صوب المدينة القديمة، أقتات القليل من الفول المسلوق في أيام الشتاء الباردة، أتعرّض للكثير من المواقف التي تجعل شبّاناً في مقتبل العمر يفكرون بلحاقي أو الحصول على رقم هاتفي..
“نيتي طيبة، الله وكيلك بدي اتزوج”، إنها الجملة الأكثر شيوعاً هنا في دمشق، ربما لأنها الجملة الأكثر دفئاً والتي تمنح الأنثى أماناً يجعل قلبها ينبض بالحب !! لكنني وعلى عكس أولئك النسوة، فلم يتبق من أنوثتي سوى ملامح جسدي، حوضي، صدري، وشعري الطويل ..
وحدك أنت، تمكّنت من قلب المعادلة، لقد لحقتك لأول مرة في حياتي، لربما لأنك أطعمت الحمامات، بل وربما لأنني لمحت في يدك رسالة كانت معنونة بـ ” حبيبي القريب البعيد ” !!
لن أستطيع البقاء معك لأكثر من الفترة التي قضيناها سوية .. لديّ مشاغلي، آلامي، خوفي، انتظاري، ولساني الضائع !!
مجلة قلم رصاص الثقافية