عن مجموعتهِ القصصية “المبغى” الصادرة عن دار “آس” 2019، يخرجُ الشاعر والقاصّ السوريّ حازم شحادة؛ خرّيج كلية الإعلام، بنصوصٍ تتفرَّدُ بواقعيّتها وَجِدَّتِهَا وحبكاتها التي تتكشّفُ عن أحداثِ مكثّفَةٍ بأسلوبٍ مختزل يتواترُ في ذروتهِ حتى تهبط إلى نهاياتها بسلاسةٍ وروّيةٍ تنمُّ عن نغمةٍ تعزفُ موقف الكاتب حيال القضايا الكبرى التي شغلت بالَ الإنسان قبل مئات السنين، من مثل: الكون، العالم، الحرب، الوطن وصولاً إلى الله، لتظهرَ قصصهُ في بعض الأحيان على شكل فلاشات تومض على ما قتَّمهُ الزمان وَضبّبَ زواياهُ في مجتمع تهالكَ تحت تأثير ما صارَ رجعيّاً بالياً، وأحياناً على شكل بصماتٍ لا تُمحى، تنغرز في ذاكرة القارئ كوشم بزمانها وتفاصيل أمكنتها، وعقدٍ تنفرجُ عن صراعٍ نازفٍ بين قوَّتين، إحداهما تشترك بقاسم جامعٍ؛ قاسمٍ رافض، جامح، متمرد، توَّاق للأرض والقرية والحق والجمال والمرأة، وأخرى قاسية، حاكمة، متسلّطة تتمثل بالقوى الكبرى، والعالم، والغريزة، والله.
وعبر قصصه الخمس والأربعون، يظهرُ الأبطالُ بجلاء، متباينينَ بين جنودٍ منفيين منسيين أنهكتهم الحرب، وكُتّاب عظماء يغمرهم الظلّ، إلى نساء جميلاتٍ مغرياتٍ غانياتٍ وحبيبات، وَجامعيين هائمين عبر شوارع المدن ينظرون إلى المستقبل دون أن يروا ملامحهُ، قابضين على الوهم بحقيقةٍ وحيدة مفادها أنهم بلا جاه ولا مال ولا حتى فرصة عمل.
كما تبدو أمهات الشهداء صامتاتٍ بعيون من فراغ، تصبو إلى وطنٍ منكوبٍ مكروبٍ مجروح بالحرب، يؤمُّهُ حفيف أجنحة الشياطين فبات الذي كان أميناً، غيرَ أمين على أبناءٍ تحكمهم لقمة العيش والرغيف، بل وَتُجبرُ أبطال بعض نصوصه للاجتماع بمن لا تطيقهُ عقولهم ولا أقلامهم من أبناء الطبقات المخملية البراقة الرنانة، واقفين أمامهم عُزَّل من أي سلاح، ما خلا سلاح العلم والكلمات، دون أن يخفى على القارئ صدورٌ ضاقت ذرعاً بوطنٍ – رآهُ الكاتب – يتكاثر فيه البشر كالفيروسات، وأحقاد وحروبَ تتناسل بفعلِ لصوص يقتاتونَ على دماء الآخرين، ليزيدوا من أرصدتهم في المصارف، إضافةً لرجال دين باعوا رُعاعاً قصوراً في السماء ليُفجّروا أنفسهم بين البشر، وَحنق وسخط على عالمٍ بات يقدّم العاهرات على شكل فنانات، وصولاً إلى الإله الذي يحلم الكاتب أن يكونهُ كما في نصّ “لحنٌ سوريٌّ شجيّ” حيث كتب:
“لو كنتُ ربَّاً لجعلتُ الناس يعيشون في سلامٍ بلا أمراض ولا فقر ولا ظلم ولا استغلال ولا حروب. لن يكون أحدٌ منكم بحاجةٍ لأنبياءَ أو معجزات، ولن أفرض عليكم صلاةً أو صياماً أو أيَّ شيءٍ آخر وسأحبّكم بلا ابتزاز لكن من سوء حظكم، لستُ ربّاً”.
ومن قريتهِ “بسنادا”، القرية الساحلية التي تلتحف كتف الساحل السوري، والتي يوازي حبها في قلبه، حبّ المرأة الجميلة الفاتنة، أجملُ إبداعات الخالق كما يصف، فتظهر أمكنةُ قصصه، وتتندّى تهاويم روح ابنها، ليكتب عن شجرها، وريحها، وفقرها، وسخطها، وحتى كهوفها المنسيّة. إلى جداول و سواقٍ تتسامق نحو مطلٍّ بحريٍّ في مشهدٍ يكاد أقرب أن يكون شعراً منثوراً، كما في قصة “إنها تمطرُ في بسنادا”، حيث كتب:
“إنها تُمطرُ في بسنادا
على طول الطريق، من المفرق إلى أرض الخضرا
مزاريب الأسطحة تعزفُ بلا توقف
ما أعذب صوت المزاريب في الشتاء
وأنا و أنتِ وحدنا في هذا الشارع الهارب من لعنة الزمن”
لينتقل منها إلى شوارع المدينة – اللاذقية – بحافلاتها وأسواقها ومكتباتها، بمُسنّيهَا ولاعبي النرد على مشارف طرقاتها إلى أحياء أثريائها المزدانة بكل ما يخطف القلب والعقل، وصولاً لمجون رؤّادها وَجميلاتها البعيدات ذوات القامات الممشوقة المدللة، دون أن يخفى على القارئ أثر الحرب والغربة على شبانها الذين يتسمّرون أمام الموت، عارفين أنهم مجرد بنادق بيد من يمتلكون نواصي هذا الكوكب.
ما يلفتُ من بين القصص، تفرّدُ قصة “الموهبة”، والتي تكشف عن أسلوبٍ يقارب حكايا الميثولوجية المختبئة في قلب كاتبٍ جعل بطلهُ يخاطب ملائكة السماء، وهو يغفو في الملكوت الأعلى، حانياً راضياً، ليجد نفسهُ ساخطاً مرمياً على كوكب الأرض أو الجحيم كما يسمّيه، بلكنةٍ أقرب للتهكم الساخر المر، لكنه المحبب والأقرب للقارئ.
هذا وقد صدر للشاعر حازم شحادة كاتب المقال الشهير “لا أشرب المتة مع الرئيس”، ديوان شعريّ سابق بعنوان: “أوراق نساء”.