الرئيسية » مبراة » “صب شاي لعمامك”!

“صب شاي لعمامك”!

نشأنا في مجتمعات دستورها “العيب” و”الحرام”، أما العيب فمحدداته ما ورثناه من عادات وتقاليد تراكمية، وأغلبها لم تعد صالحة للزمن الذي نعيش فيه؛ لأنه الزمن الذي لن “تنجب فيه إن استحيت من زوجتك”، كما يقول المثل الشعبي. رغم ذلك ما زلنا نراعي تلك العادات البالية خشية من الآخرين، وكلمة “عيب”. 

وأما الحرام فما حددته تعاليم الأديان والشرائع التي كانت في فترة ما كدستور يحكم معتنقيها، لكنه ضاع هو الآخر في ظل ما شهدته المجتمعات العربية من تشويه وتحريف لمفاهيمه وتعاليمه وقيمه مع تعدد المذاهب وكثرة الفتاوى، وشراء الذمم، وانعدام الأخلاق والقيم.

لذا لم يعد هناك أي ناظم يحكم المجتمعات سوى قانون بأوتار عديدة، تُشد وتُرخى حسب المقاس والمصلحة الشخصية الضيقة، وليس حسب ما تقتضي المصلحة العامة، وبما يحقق العدل والمساواة للجميع.

إن المكاشفة باتت مطلوبة اليوم أكثر من وقت مضى، وهي حاجة ملحة للمجتمعات التي نعيش فيها، والتي استحال الفساد فيها شطارة، والنصب والاحتيال دهاء وفطنة، والسكوت عن كل ذلك حكمة.

مكاشفة حقيقية وليست كالشفافية التي عُممت في كراسات ورق طُبعت ووزعت، وبوستات فيسبوك نعوض فيها عن خساراتنا ونكباتنا اليومية، حتى بتنا في لحظة ما أسرى للتطبيق الأزرق، نبثه إليه شكوانا، ونعبر عن أوجاعنا لخيبة أملنا من الواقع الذي نعيشه. وفي المقابل وجد كثيرون فيه فرصة للتشويش على أصوات متألمين لممارسة هواياتهم المعتادة، في تبييض صفحات أشخاص، ومداهنة مسؤولين، وتمرير أكاذيب آخرين وشرعنتها على أنها حقائق وتداولها لتكريسها على هذا الأساس.

كثيرون هم الذين يستحون من الفاسدين، ويحكمهم “العيب” والحياء أحياناً، والمنافع الشخصية في أحايين أخرى، لذا لن يقدموا لنا سوى الخيبات المتلاحقة، وإن هم حققوا بعض المنافع الشخصية لأنفسهم.

ذات ليلة باردة كنت في مجلس راح صاحبه يتحدث عن الفساد، فما تمالكت نفسي حين استرسل بالحديث، وقلت له: “هذه المدفأة الكهربائية التي تشعلها في مجلسك، سرقت خط كهرباء من أجلها، وها أنت تشبعنا تنظيراً عن الفساد”.

وجم الرجل ولم يعرف بماذا يجيب، وقال لابنه: “صب شاي لعمامك”.

إن مشكلتنا الأساسية أننا نطمح للتغيير، وحين نسعى لذلك، ننسى أنفسنا ونبدأ بالآخرين، وفي غيابهم، فلا نجرؤ على قول الحقيقة للشخص في وجهه، لأن “العيب” يمنعنا، لكن “الحرام” لا يردعنا عن نبش تاريخه كله في غيابه، وبمجرد حضوره نقابله بالترحاب وبابتسامة عريضة: “أهلاً أبو فلان!”، ولا نكتفي بذلك بل نبدأ بتعداد مآثره ومناقبه حتى ننفخ أناه لأقصى مدى ممكن. في إطار نفاق ورياء مقيت، هذه مشكلتنا مع أنفسنا أولاً، لأننا لا نواجه المخطئ، ولا نخاصم المسيء، ولا نقاطع الفاسد.

لست أطالبك بأن تكون فجاً في تعاملك مع الآخرين، وأن تقول للكاذب أنه كاذب، وللفاسد أنه فاسد، وللمنافق أنه منافق، أعرف أن هناك اعتبارات كثيرة تمنعك من مصارحته بحقيقته، لكنك إن صفقت له في المقابل، فأنت مثله قطعاً، ولا تختلف عنه قيد أنملة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *