لمياء نويرة |
وصل العدّ إلى الصفر، فانطلقت الشماريخ والهتافات وماجت الحلبة المستديرة الصاخبة بالمحتفلين يهلّلون ويتبادلون القبل مهنّئين أنفسهم بالعام الجديد. خفّضت هاجر صوت التلفاز حتّى انفضح صمت الغرفة وبرودها. كانت “بيت لقعاد” غرفة شديدة الاستطالة، تطلّ على البهو “وسط الدار العربي” وتنقسم إلى جانبين حيويّين، جانب للجلوس أو لاستقبال الضيوف شتاء، وجانب آخر يحتوي على “سدّة” عالية بها حشيّة من صوف، ينسدل عليها ستار يحفظ لكريم خصوصيّته عند النوم. وضعت الصبيّة جهاز التحكّم على المائدة، ثم التفت إلى أمّها والتحق بهما أخوها. ضغطت شدليّة على تينك الرأسين التوأمين بكلتا ذراعيها، فيما اقترب منها القطّ شركس نافشا شعره الذهبيّ الكثّ، وجعل يتمسّح على أعتابها، فتحرك فيها حنين سرعان ما كتمته في نفسها.
كانت هاجر تزيد التصاقا واستسلاما لأنامل أمها، كلما عبثث بخصلاتها المسترسلة، تريح صخب فكرها المنشغل، وتملأ روحها بطيب أمّها، زادا لأيّام غربتها الآتية، في حين نهض أخوها فجأة على إثر صوت أزيز متقطّع، فقرقعة، تلتها أخرى مدويّة، اهتزّ لها شركس فزعا، هسهس، قوّس ظهره، دار حوله، ثم توارى عن الأنظار. حدّة تلك القرقعة وقوّتها وتكرارها كلّها إشارات تحدّد حال سي المنجي “العضروت” التي يعود عليها في آخر الليل. انتفضت الأمّ، وهمست: “ربّي يسترْ، أثقل الشراب هذه الليلة”.
ظلّ العضروت واقفا في “السقيفة” المظلمة برهة من الزمن يستردّ بأسه وتوازنه قبل أن يواصل سيره إلى ساحة الدار، فغرفة الجلوس. ولم يكد يخطو خطوتين، حتّى تعثّر في شيء رخو أسقطه بكل حجمه الثقيل أرضا مرّة واحدة. أطلق القطّ المسكين عواء عاليا، في حين أطلق العجوز الثمل سيلا من الشتائم بأعلى صوته: “يا وِلْد الكلبْ، مِلّي ريتكْ ما ريتْ خِيرْ، إلاّ مَنْقَطْعِكْ طْرُوف ونرْميكْ لِلْكلاب”. واستوى بجسمه المتهالك، ثم جعل يتقدّم مترنّحا نحو بيت لقعاد رافعا وعيده وتهديده: “شدليّة، شدليّة، الليلة نْورِّيكْ فيه، قطُّوسِكْ المَنْحُوسْ”.
سارع كريم نحو أبيه، ليسْنِده، خوفا من بطشه وأذاه، بيد أنّ والده دفعه بشدّة، قائلا: “اِبْعدْ”. أما شدليّة فقد هبّت إلى ركن الغرفة القبليّ ساعة دفع زوجها الباب الموارب بكلتا يديه حتى انفتح على مصراعيه، وأدخل معه هواء باردا لا يحتمل. ووقف محاولا الاعتدال. كانت تتدلّى من زاوية فمه الأدرد سيجارة التهم نصفها، وكانت سترته مقلوبة وأكثر أزرار قميصه منفكّة، أمّا سرواله فمرتخ مبلّل. ارتمت هاجر في عنقه، فلفحتها رائحة خمر خانقة، ومع ذلك قالت بتوسّل: “حلّفتك بالله يا بابا، اهدأ، وصلّ على النبيّ”. ثم أشارت إلى المائدة: “بابا، “القاطّو، أعددته كما تحب. كل سنة وأنت طيّب يا …”. ولكن الشيطان كان قد تلبّس به أكثر، واشتعلت عيناه كالشرارة ساعة لمح موضع وقوف زوجته. فهجم عليها، يدفع بها، ويزيحها عن طريقه، فانكشف أمامه الصندوق الخشبيّ المهترئ، فنزع فردة حذائه، وأشهرها بيد، وباليد الأخرى كشف الغطاء عن الصندوق، وقبل أن يهوي على القطّ المسكين ليهشّم رأسه قفز سركش بحركة سريعة، ولاذ بالفرار. ثارت ثائرة المنجي، وتكاثف الزبد حول فمه من شدّة الصراخ واللعن، وجعل يركل الصندوق بحركات هستيريّة، لم يتوقّف عنها إلاّ حينما انتبه إلى دم غزير ينبثق من أصبع رجله، وجرح منفتح انغرس فيه شيء يشبه المسمار.
شيء ما أيقظها من هجعتها، وجعلها تفتح عينيها فجأة، وتغادر مخدعها، وتتدثّر بشال ثقيل، وتتسلّل خارج غرفتها. وحين أدركت باب بيت لقعاد دفعته برفق وأطلّت، لمحت ابنتها مسندة رأسها النائم إلى طرف الأريكة التي استلقى عليها والدها، فيما ظلّت هي في وضع الجلوس على حشيّة تفترش الأرض، وتقابلها على المائدة تلك الكعكة. كان النائم مضطربا، يهتزّ جسمه، فيرتفع أنينه عن شخيره، فينحسر الغطاء الصوفيّ عنه، فينكشف لحم بطنه المرتخي. حولت الأمّ نظرها إلى الجهة الأخرى. كانت السدّة فارغة، لقد غادر كريم إلى مخزن المعجنات ليستقبل الشاحنات باكرا، ويضبط حمولتها من الصناديق لتوزيعها، عمل لا يتطلّب -بلا شكّ- شهادته الجامعيّة المميّزة، ولكنّه كان كافيا ليجعل أمّه تنعته برجل البيت وسندها. سرت شدليّة إلى الباحة فالسقيفة وهي تنادي: “شركس، شركس، وينك يا وليدي”. ولا مجيب، جابت كامل أرجاء البيت حيث تتوقّع اختفاءه، فهو بلا شكّ بات ليله مرتعبا.
شركس، ذلك العزيز، لم يكن مجرّد حيوان بالنسبة إليها. فتحت مزلاج الباب الكبير وأطّلت خارج المنزل، ثم واصلت نداءها وهي تتقدّم في الزقاق الموحش. أين هو الآن؟ ثلاثة عشرة عشر سنة وهي ترعاه وتحفظه كما تحفظ ولديها، تحفظه من أذى الطريق ومن عنف زوجها العجوز الفظّ، الذي ظلّ لسنوات يخطّط لبيعه مذ قدّر بأنّه قطّ نادر ورفيع السلالة، ولم يكتف بذلك بل وصل به الأمر إلى أن يأخذه إلى البيطريّ في غفلة من الجميع ليمنع نسله. فجأة لمحت شيئا ملقى وسط الممرّ من بعيد. هتفت بأعلى صوتها: “شركس… يا كبدي”.
لم يقرقر قطّها، ولم يتغنّج ، ولم يسارع كما اعتاد ملبّيا نداءها مرتميا في أحضانها، سقط عنها شالها حين جرت نحوه وهي تصرخ صرخات مزّقت صمت الليل أشلاء. انحنت تتفحّصه بلهفة عسى … ولكن هيهات، لقد كان شركسها العزيز جثّة هامدة، قد تبعثرت أحشاؤه ودماؤه المتخثّرة حوله. رأت وجهه المربّع مواجها لوجهها وكأنّه ظل ينتظرها حتى بعد أن باغته الموت، انكبّت عليه أكثر تتأمّل عينيه المستديرتين وقد جحظتا وامتدّ من أحدهما دمع تجمّد ككرة ملح قاسية، انهمرت دموعها ساخنة حارقة أذابت دمعه وسال من جديد. مدّت يدها تسحب طوقه الجلديّ ليفارق رقبته لأوّل مرّة منذ ولد، وطالعت تحت الضوء الخافت لفانوس الزقاق النقوش التي تحمل اسمه وتاريخ ميلاده، ثم انهارت تبكيه وترثيه. ألم يكن صغيرها، ربّته مذ كان رضيعا في لفّته، وما غادر حضنها قَطّ؟ ألم يكن أمانة سلّمتها لها مشغّلتها الطيّبة “مادام فانْتينو” قبل أن تغادر نهائيّا إلى وطنها؟ ألم يكن “بركة” حين غنمت وظيفة قارّة في مؤسّسة إيطاليّة مقابل الاعتناء به؟ ألم يكن عملها كمنظفة رزقا سدّ حاجيات ولديها في ظلّ أب بائس متخلّ، لا يبذل إلاّ لجلساته الخمريّة. “لِمَ مِتَّ يا شركس ميتة رذيلة لا تليق بك يا صديقي العجوز؟”.
حين ظهرت تباشير الصباح كانت شدليّة قد أتمّت جمع بعض أدباشها، وأضافت حقيبتها إلى حقائب هاجر المعدّة للسّفر، وأسرّت في نفسها: “ها قد حان موسم الرحيل، غاليتي ستسافر لتعانق بهجة الحياة، وأنا سأرحل لأرتاح، فما عاد في عمري متّسع للوجع والخيبة”. وجلست على طرف السدّة، وأرسلت أصابعها المتشقّقة على الحشيّة تتلّمس دفئا انطفأ منذ سنين.
وقفت أمام مرآة الدولاب تتأمّل صورتها. لم تتعرّف إلى وجهها بأخاديده الكثيرة وعينيها الغائرتين ونظرتها المنكسرة وضوئهما المنطفئ ، لقد تغيّر وجهها كثيرا، أرخت الوشاح عن شعرها، فإذا الشيب قد غزاه، أهذه هي؟ ووجدت نفسها مدفوعة لتلمّس جسدها الهزيل، فكادت تعدّ أضلاعها، وتعجّبت حين مرّت بصدرها، فوجدته ناهدا بكرا كأنّما غفت عنه السنين. فالتفتت مرّة ثانية نحو السدّة، وأرعبتها ذكرى سنوات البرود والوحدة والحرمان. “العضروت”، الطويل، الرجل الكامل، ربما كانت ستدركه كذلك لولا فارق السنين، فهي لم تلحق بغير أعقاب للرجولة قبل أن يصير ذكرا عاجزا معتلاّ ويزيد على ذلك بإغراقه في جحيم السكر وإدمان التدخين.
تذكّرت ابنتها، الجالسة ليلة بأكملها عند قدمي والدها، فشعرت بفيض من الشفقة، وسارت نحو بيت القعاد، كانت تنوي أن توقظها. وتستحثّها على التأهّب لموعد سفرها. دفعت الباب وئيدا، تكره أن يتفطّن إليها زوجها، ولا تحتمل النظر في وجهه، وموت شركس كسّر قوس صبرها، ولكنّها تسمّرت عند مدخل الغرفة، كانت هاجر لا تزال نائمة مائلة بوجهها الملائكيّ على جسد أبيها دون أن تشعر بقبضته وهي تشدّ على يدها، ودون أن تنتبه إلى وجهه الممتقع وعينيه الجاحظتين وجسده الهامد فوق بركة من الدماء تحت رجله.
كاتبة وقاصة تونسية | مجلة قلم رصاص الثقافية