آمال أبو رضوان |
أقام منتدى حيفا الثقافي أمسية أدبيّة مغايرة وبنكهة خاصّة للمبدع فادي بديع أبو شقرة، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان، وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني، وذلك احتفاءً بباكورة إبداعه (رهين الجسد)، وسط حضور كبير من أدباء وأصدقاء وأقرباء، وقد ازدانت أطراف وزوايا القاعة بلوحات الفنانة فاطمة رواشدة، وبعد أن رحّب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس المنتدى بالحضورـ تولت عرافة الأمسية خالدية أبو جبل، وتحدث عن الكتاب كلّ من: د. راوية بربارة عن قناع الكاتب في النّصّ السّيْرذاتيّ، ود. محمد هيبي عن فادي أبو شقارة، “رهين الجسد” طليق الفكر والرّوح!، ثمّ ختم اللقاء المحتفى به، شاكرا المتحدثين والمنظمين والحضور، وقد تخللت الأمسية مداخلات غنائية للفنان عبدالسلام دحلة من تلحينه وصوته، ثم تمّ التقاط الصّور التذكارية!
وقالت د. راوية بربارة: مساؤكم آذاريّ. كان قد احتفى فادي قبل أيّام، تحديدًا يوم الثامن من آذار بذكرى ميلاده، أوَتظنّونها صدفة أن يولَد فادي في يوم المرأة، ذاك اليوم الّذي راح ضحيّته مئات النساء حرقًا؟ ذاك اليوم الّذي يشهد على تضحية المرأة في كلّ مجتمعٍ بطريركيّ، أوَ ليست هي رهينة العاداتِ والتقاليد وتعاني من صلافة تعامل المجتمع ونظراته؟ أوَ ليس الفقراء في عالمنا والمحرومون الحياة والجوعى هم رهناء ذلّهم؟ أوليس العاقلُ رهينَ عقلِه، على حدّ قول الشّاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لم أجد مرتاحًا جادَ وأبدعَ، فالإبداع الحقّ يولدُ مِن قلبِ المأساةِ غيريّةً كانتْ أو شخصيّة؛ فهل أبدعَ بيتهوفن أجمل موسيقاه إلّا والصّمم قد سرقه الاستمتاع بلذَة ما أنتج؟ وهل أبدعَ رهينُ المحبسيْن مِن فراغٍ فلسفيّ أم من شقائه في العمى والدّار، وعلى حدّ قوله: رهينُ المحابس الثّلاثة أنا: العمى والدّار والجلد الخبيث، وعلى علّاته أصبح فيلسوفَ الشّعراء وشاعرَ الفلاسفة، وترك لنا إرثًا أدبيّا وتراثًا نتوارثُهُ ونفخرُ به.
وأنت فادي، ماذا تركتَ بين أيدينا؟ تركتَ جرحًا مفتوحًا لا تقوى السّنونُ على تضميدِهِ، لأنّك حفرتَ عميقًا في الوجدان أخاديدَ حزنٍ ومجاريَ دموعٍ، كيف تجرّأتَ وعرّيْتَ كلَّ ذاك الألمِ، وألبستَنا رداءَ الغباء والعار؟ كيف تجرّأتَ ورششتَ بحبركَ الملحَ فوق جراحِنا ففتّقتَها؟
كم كنّا نظنّ أنّنا نُعاني الألمَ، لكنّ صرختَكَ أخجلتْ أَلَمَنا، ما أصعبَه من وصفٍ يَنطقُ صدقًا، حين وصفتَ ألمَك الجسديّ والنّفسيّ والاجتماعيّ.
وقال د. محمد هيبي في مداخلته: أهداني الكاتبُ فادي أبو شقارة باكورةَ أعمالِهِ الرّوائيّة “رهين الجسد”. روايةٌ تمتّعتُ بقراءتِها، فهي روايةٌ تتمتّعُ بقسطٍ وافرٍ مِن الجَمال، لتَماسُكِها من حيثُ شكلِها وبناؤها وجرأة مضمونها. ويكفيك فخرًا يا فادي، أنّني أثناء قراءتي، شعرت أنّني أنا المُعاقُ ولستَ أنت. نحن جميعا، بشكل أو بآخر، رهناء أجسادنا، لكن لسنا جميعًا قادرين على الانطلاق بفكرنا وأرواحنا كما فعلت أنت. السّجن بلا جدران، قد يكون أقسى ألف مرّة، من السّجن بين الجدران وخلف القضبان. فقد شعرت أثناء قراءتي، كم أنت قادر على الانطلاق، بينما كنت أنا مُقعدًا رهين جسديّ وروايتك”. وعليه، فأنا أجد في “رهين الجسد”، رواية جريئة كشفت عُرْيَنا وفضحَتنا، نزعت الأقنعة عن وجوهنا، وأزالت الألوانَ المزيّفة عن وجوهنا الممكيجة.
“ما الإنسان”؟ سؤال فلسفي حيّر الكثيرين، وأهمّهم الفلاسفة والأدباء، لأنّ الأدبَ لا يكون إنسانيًّا، إن لم يبحث عن إجابة له. وفلسفة رواية “رهين الجسد”، أنّها حقّقت أدبيّّتها وإنسانيّتها بمُساهمتها الجادّة في الإجابة عن هذا السّؤال. فهي قصّة الإنسان العاجز أمام الطبيعة، وليس بالضّرورة جسديّا، وشغله الشاغل أن يبحث عن سبيل للخلاص من عجزه. وهذا ما يقوم به فادي الّذي بدأ في مرحلة ما، بعد ولادته، يعي معاناته، ليس بشكل ذاتيّ من خلال إعاقته فقط، وإنّما من خلال علاقته بالآخر، وما سبّبته تلك الإعاقة للآخرين من ألم وصراع ومعاناة. خاصّة أولئك الّذين تعالوْا فوق جراحهم، ووقفوا منتصبين أمام قدرهم، يُضحّون بكلّ نفيس، ماديًّا ومعنويًّا، ليلبّوا لفادي ولبطل روايته احتياجاته، لا ليخفّفوا من عجزه ومعاناته فقط، وإنّما ليقنعوه: أنت مثلنا ولا تختلف عنّا، أنت رهين جسدك ولكنّك لست عاجزًا. وهي قصّة الإنسان، الّذي مَهما ضاقت به الدّنيا، لا يستطيع أن يتخلّى عن إنسانيّته، فيبحث عن سعادته في سعادة أخيه الإنسان. كم كان بوسع الأب والأمّ والأخ والأخت، أن يتخلّوْا عن ذلك المولود المنذور لشقائه وشقائهم، وأن يتخلّصوا منه أو يتركوه لقدره في المستشفى؟ أوليس هناك من فعلها استسلامًا لإنسانيّته العاجزة؟
وقال الكاتب فادي ابو شقرة في مداخلته: مساءُ الخير، مساء الفن والأدب، مساء التّحرّر من كلّ السجون الّتي تعيقنا عن الإبداع. تحياتي لنادي حيفا الثقافي والمنظمين والمتحدثين، وتحياتي للعائلة الكريمة الّتي ترافقني يد بيد، للضيوف الكرام فردًا فردًا.. لكم محبتي وتقديري.
خلال الأمسيات الخاصّة بالرّواية، إن كان إشهارُها أو المناقشات فيها، يرددون أمامي: “فادي نحن اليوم نحتفي بك، فادي أنت اليوم عريس الحفل”. وكل عريس يحتاج إلى.. ماذا؟ عروس! وعروسي اليوم أكثرهن جمالًا وبهاءً وميّزة.. إنها عروس البحر.. حيفا!
بعد الإقبال الكبير على روايتي فور طباعتها ونشرها، وبعد الصدى الّذي لاقته أمسية إشهارها، وضعت نصب أعيني هدفًا واضحًا، صريحًا، جريئًا، أن أكون ضيفًا أنا وروايتي فوق هذا المنبر المحترم. ولم أكن لأقدم على هذه الخطوة وطلب الفرصة لو لم أشعر وبكل تواضع أن الرّواية من ناحية أدبيّة تستحق النقاش والتحليل داخل هذا المكان الراقي، الّذي يجمع نخبة الأدباء والشّعراء والنقاد المحليين.
تحملُ بعض كلمات روايتي في طيّاتها ألمًا، وتشعّ بعضها أملًا، تكشف غيرها ما يحمله شابٌ مقعدٌ من همّ وغمّ، وأخرى تصرخ عاليًا أنّ العزيمة والإصرار هما الأهمّ. فقد عشت في ظلال الإعاقة سنوات بدت لي دهرًا. عشت تحت وطأة نظرات رأت بي شبحًا، وتحت رحمة كلماتٍ تخلو من الرحمةِ. تلقيتُ الضربة تلو الضربة وبقيت واقفًا صامدًا إزاءها، أو وجب القول في حالّتي بقيتُ جالسًا.. صامدًا، ولم يجد اليأسُ سبيلًا إلى قلبي. ولكن لن أطيل الكلام حول الوجع الإنسانيّ الشّخصيّ داخل نص الرّواية ولا خارجها، لم أتِ حتى هنا طمعًا في كسب شفقة من الموجودين، هذا أحد المفاهيم الخاطئة الّتي أحارب من أجل تغييرها.
الرّواية ليست رواية تاريخية، ولا تتناول أي قضية سياسية، لكن هذا لا يجعل منها أقل قيمة وأهمية. قمت بكتابة رواية اجتماعية إصلاحية هادفة، تسلّط الضوء على فئة مهمّشة من المجتمع لتكون المحور الرئيسي فيها، تسعى إلى زرع أسمى القيم الإنسانيّة كالمحبة والمساواة والتواضع وتقبل الآخر. فهل وفقت في ذلك؟
الرّواية غيّرت مفاهيم خاطئة عديدة تتعلّق بأصحاب الإعاقة، كما قامت بثورة فكرية نحن بحاجة ماسة إليها، ساهمت في تحريك مشاعر وأحاسيس القراء ليتعاطفوا ويرغبوا في سماعي والدليل على ذلك أكثر من 1200 نسخة بيعت دون مساعدة أي دار نشرٍ، وأيضًا تم دعوتي من كافة القرى والمدن فزرتُ منذ إصدار الرّواية عيلوط والعزير ووادي سلّامة وعين ماهل والمشهد وكفر ياسيف والناصرة وكوكب أبو الهيجا وكفر مندا وكفر قرع وام الفحم. كما تم استضافتي عبر قناة مساواة ومرتين في برنامج الأسبوع على قناة 13 ريشت، وراديو مكان وراديو جمعية المنارة وموقع بانيت وموقع بكرا ووموقع وازكام وموقع وفا الفلسطيني.. قبل عدة أيام زارني في البيت ثلاث طالبات من الإعدادية لكتابة موضوع إنشاء عن شخصية بارزة في طرعان ووقع اختيارهن عليّ.
قال محمود درويش “قف على ناصية الحلم وقاتل. ومنذ ولادتي وأنا أقاتل.. أقاتل الإعاقة، أقاتل الضعف والعجز والألم، أقاتل المجتمع وعيونه وألسنته، أقاتل الشّفقة والسخرية، أقاتل من أجل الوصول إلى أحلامي. اليوم على ناصية الحلم أقول قد قاتلت وانتصرتُ.. والدليل على انتصاري هي الرّواية الّتي ما زالت قيد الطلب والاهتمام حتى اليوم بعد نصف سنة من إشهارها، والدليل على انتصاري هو النظرة المغايرة الّتي يراني بها النّاس من معاق لا يعوّل عليه إلى مصدر إلهام للكثير وإلى كاتب أصدر عملا اجتمع هذا الكم الهائل من النّاس مهتمين متلهفين للسماع عنه.