غادة اليوسف |
بالرغم من كونها متشرنقة بالحرير الأسود، من نسيج (كلّ المرأة عورة) ولا يظهر منها إلاّ عينان مكتحلتان بكحل مستقدم من بلاد البترو دولار، بدت فتيّة، وبعمر بناته، وذلك من تألّق نظرتها ورشاقة حركتها. دبّت في المتجر حيوية تترافق عادة مع دخول ذوي الجيوب المكتنزة، انفرجت أسارير صاحب المتجر الذي هبّ واقفا مرحّبا بزبون يتعالى عن المساومة، ولا يسأل عن سعر البضاعة قبل اختيارها..
أسرع صبيّ المحلّ وسحب كرسيين للرّجل ومرافقته الشّابّة وقد تهلّل وجهه مستبشراً ببخشيش دسم يعادل ربحه عن شهر كامل من عابرة مثلي تجفّف ريقه في المساومة لتخفيض السعر بضع ليرات.. قرّبت الصّبيّة رأسها من أذنه وهمست…أجابها على الفور: “اختاري ما يعجبك ولا تفكّري بالثمن” لي ذاكرة سمعية لا تشيخ، هذا الصوت أعرفه، نظرت إلى الرّجل مصدر الصوت لكنّه كان مطرقاً تأدّباً، كعادة الملتزمين بقواعد السّلوك الشّرعي السّليم :غضّ البصر وحفظ….. أجل، إنه هو، ولكن.. أيعقل؟! أهذا هو وليد؟ أبو يسار؟!
يا إلهي كم تغيّر عمّا كان منذ حوالي ثلاثة عقود: لحية غيفارا تحوّلت إلى لحية طالبانية، والجينز (الكاحت)، والفيلد الكوبي الذي كنّا نبتهج بجنون، حين نحظى بالعثور عليه من البالة، استبدل ببدلة رصينة فاخرة تستر الجسد الذي تكرّش، وسبّحة التّسع والتسعين حبّة تتدلّى باستسلام بين السبّابة والابهام.. أحقّاً هو ذاته؟ ذلك الثوري، المتطرّف، (المرّ)، الذي كان يساجل ويجادل فيقاتل ! ويجاهد كي لا تغدو ألفاظه سباباً بذيئاً على محاوره إن اختلف معه، والذي كثيرا ما كان يفشل في ذلك، وخصوصاً إذا حوصر، فعندها، وليغطّي عجزه الفكري، سرعان ما يهبّ واقفا، فارجا ساقيه، رافعا يده مهدّدا، وبحركة يتقنها ضرّيب سكاكين، يزأر: (شوف ولاك، إحنا أقل من دكتاتورية البروليتاريا ما بتوفّي معنا)..! ما بتوفّي معه، إذن هي مسألة ربح وخسارة ! ما بتوفّي معه، نهج له علاقة بالسوق، وذلك في زمن كنّا نعتقد أنّ انتصار الثورة الاشتراكية على الامبريالية، رهن بتسلمنا لواء قيادتها..
زمن موغل في البعد عن حاضرنا الذي ينتحر خلاصاً في اقتصاد السوق، زمن لمّنا به حلم الغد المأمول، حين كنّا ننمنم خريطة للوطن ترقص على سفوحها العاطرات أفراح طفولتنا المتمادية، حين ربطتني به وبزوجته سلوى صداقة حميمة، سلوى زوجته، والتي – وبحسب المصطلحات التي درجت كثيرا تلك الأيام- من المفترض أنها كانت حبيبته ورفيقته، ولأسباب لا يعلمها إلاّ الله وثلّة من المجنونات اللواتي أغواهنّ اللون الأحمر- وفيه ما فيه من فتون الفروسية وحرارة الافتداء- تحوّلت إلى جاريته، ثمّ طلّقها بعد زمن، لأنها تقزّزت من تسلّطه.
سلوى.. تلك الصّبيّة المخذولة، جاءتني ذات خيبة، معلنة الرّدّة على كلّ الرّموز والآلهة الهشّة، وذلك قبل أن تنسحب هي الأخرى إلى سردابها المظلم، لتصنع إلها، أكثر نفعا وسخاء، يسهل إرضاؤه، وتسهل دروب الفوز بجنّات خلده المضمونة مسبقاً. جاءت تشكو من هذا المتكوّم على عرش فخاماته الذّكورية، كيف ضبطها ذات مرّة تكحّل عينيها بحبور على أنغام (مونا مور) الحالمة والتي كانت تشفّ، فتطير معها في لحظات الوجد – تلك الأيام – انقضّ على يدها، وانتزع منها قلم الكحل، وسحقه على الأرض، وكذلك فعل بشريط الموسيقى مع شتيمة تتناسب مع درجة ولعه بالشعب! (كان يحبّ الشعب كثيراً، وخصوصاً الشّتائم الشعبية): …أختك لأخت الكحل، ألا تعلمين أنّه للجواري؟! وهذه الموسيقا الرّخوة ؟ ما هي إلاّ تمييع للنضال الطبقي ! وبقدمه الثورية تلك، سحق قلم الكحل واغتال أمسية لطيفة كانت تتهيّأ لدفء احتضانهما، ثمّ هزّ إصبعه في وجهها متّهما مهدّداً: فقط، يسمح لك بالاستماع إلى النشيد الأممي، وبلغته الأم؟! وليهدّىء من روعه تركها، وقد ارتفعت وتيرة عصابه الثوري، للخيانة التي ارتكبتها بحقّ توقيت الثّورة الدّائمة، التي لاوجود لها إلاّ في قدميه الرّافستين ويديه الصّافعتين، ولسانه المعجون بالشتائم، وخرج مسرعاً ليتلافى ما أخّره قلم الكحل، وشريط الموسيقى من خطى الثورة القادمة المغدورة، ولأنّه، ولضمان استمرار الثورة، كان بحاجة لاستعادة صفاء ذهن يحتاجه كلّ ثوري..
كان من الضّروري أن يفرغ أكثر من زجاجة ويسكي وتوابعها في جوفه على أنغام أغنية سيّدة الشّرق أمّ كلثوم التّراثية القديمة ( حطّيت على القلب إيدي وأنا بودّع وحيدي).. وحين ترتخي يد المغنّية لكثرة ما شالتها وحطّتها على قلبها، يعود صباحاً ليفرغ على سرير زوجته كلّ الشوائب التي علقت بثورته من جرّاء كحلها، واستيهاماته… “يا أخي أقل من دكتاتورية البروليتاريا ما بتوفّي معه” ؟! كان يبحث عن بروليتاريا فلا يجدها ! فيرى في زوجته سلوى، والتي من المفترض أنّها رفيقته كما كان يحلو له أن يسمّيها، وقد حوّلها إلى بروليتاريا رثّة، لا تفي بالشّرط الذّاتي للثورة! أعادني إلى المتجر صوته يقول للمتشرنقة: إن شاء الله ألف مبروك.. وبغنج عشرينية تتقن فنّ بيع العواطف، وشرائها، ردّت بخفر مطلوب لتدويخ مابقي داخل الجمجمة المكابرة قائلة: مبروك علينا معاً.. وشبكت ذراعيها حول ذراعه، متشبّثة بادّعاء احتماء، يبدو أن الحبّ أيضا قد تمرّغ – ككلّ شيء- بوحل السوق! حين يتكامل العرض والطلب بين صبية وكهل يرشو صباها بما يملك فتدغدغ رحيله المتسارع عن حواف الشباب بوهم اشتعال ما راحت إلا علينا: سلوى.. وفادية..وهيفاء..ورانية..و وغيرهنّ… صبايا كنّ للزمن نيسانه المرهق الفتنة، ممّن أحببن الحياة بلهفة شاعر، وهمّة مناضل، ويقين نبي…بضع مجنونات توهّمن ضوءا في عينيه، وراية في ساعديه، وحصانا أبيض يطير بهنّ إلى الغد الذي سيغزلانه معا يدا بيد، وحين عرّت الجميع رياح التجربة، أمسى بلا ضوء .. بلا حصان..عاريا من كلّ شيء ..ولم يبق منه سوى هامة منكّسة.. يلوب بعين قاصرة.. يبحث عن الخضراء في وحل الدّمن.. ولم يبق لنا سوى ماتجمّع في نهر السنين الهاربة من نزف مجّاني مضحك لعمر لن يعود … أخرج رزمة نقديّة من جيب أودع به السّبحة ليتسنّى له عدّ المبلغ المبالغ به دون مساومة، وناوله للبائع بحبور وزهو ّامتلاكه حقّ (القوامة)، كزوج عليه امتاع التي (في الخدر المكنون من قاصرات الطرف عين) ممّا ملكت أيمانه، بعد المثنى، والثّلاث، والرّباع.. وخرج مودّعا: السّلام عليكم..
وجدتني أردّ على تحيّته بمثلها أو بأحسن منها: وعلى الثورة السّلام.. 2013 يملأ وجه وليد شاشات التلفزة وقد طالت لحيته أكثر حتى حاذت صفّ الرصّاص المتصالب على صدره، فوق واقية الرصاص.. وخلفه ثلّةُ من رجالٍ استنبتوا لحىً حمراء.. وشهباء.. وسوداء مستقدَمةً من كلّ أنحاء الأرض.. مزنّرين بعدّة القتل.. يرفعون سيوفاً !! يرعد.. ويهدّد.. وعيناه اللتان لطالما أذبلهما (الويسكي ).. وبعدها.. (تقوى الله) !!! ها هما الآن تشتعلان كرهاً.. تقدحان جنوناً كفيلاً بإبادة الحياة.. يحمل شعار إيمانِه بربٍّ يشبهه.. ينادي أن لا حقّ لغيره في الحياة.. ينهي حديثه بعُصابه (الثوري) القديم ذاته آمراً : (تكبيييييير ).. ترتفع خلفه السيوف وهتافات الموت ألله أكبر…تكبيييييييير …ألله أكبر ..تكبيييييييييير …. مؤكّدٌ أنّ لكلٍّ إلهٌ يشبهه .. وجدتني أقول : “ألله أكبر ..وعلى السلام… السلام”.
كاتبة وقاصة سورية | مجلة قلم رصاص الثقافية