ثلاثة عشر عاماً تمر اليوم على رحيل الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي غادر عالمنا في الخامس من نيسان عام (2006)، بعد مسيرة طويلة بلغت (88) عاماً، اختتمها بقوله: «لقد شبعت من الحياة، عشتها بكل ما فيها، وما عدت أرغب بالمزيد»، وكانت مسيرة مليئة بالإنجازات الأدبية والإبداعية والسياسية التي ما زال أبناء مدينته الذين شيعوه قبل سنوات إلى مثواه الأخير في مقبرة حطين، يفخرون بها.
العجيلي الذي وُلد في الرقة عام (1918)، نشأ في المدينة التي بدأت تتشكل ملامحها خلال تلك الفترة، وكبرا معاً كتوأمين، لذا ورغم ارتحاله عنها منذ التحاقه بمدرسة التجهيز الثانوية في مدينة حلب لعدم وجود مدارس ثانوية في الرقة آنذاك، بقي لصيقاً بها، فما يلبث أن يغادرها حتى يعود إليها بلهفة عاشق مشتاق، وبعد أن نال الشهادة الثانوية دخل كلية الطب في جامعة دمشق ليتخرج فيها طبيباً عام (1945)، وتعرّف خلال تلك الفترة إلى أبرز الأدباء السوريين منهم الشاعر الراحل نزار قباني والأديبة كوليت خوري، وآخرين.
برزت موهبة العجيلي الأدبية في سن مُبكرة، من خلال كتابة الشعر والقصة القصيرة، حيث نشر أولى قصصه (نومان) في مجلة الرسالة المصرية الشهيرة، وكان حينها طالباً في المرحلة الثانوية عام (1936)، وقد وقعها بالترميز (ع.ع)، دون أن يُعرّف عن نفسه.
عاد العجيلي إلى مدينته الرقة بعد تخرجه ليفتتح عيادته فيها، ويكون طبيبها الأول، وبعد عام قضاه في معالجة أبناء الرقة، شق العجيلي طريقه نحو السياسة مع انتخابه نائباً عن مدينته في البرلمان السوري عام (1947)، وانضم لاحقاً إلى جيش الإنقاذ مع عدد من المتطوعين الذين هبوا من مختلف الدول العربية للدفاع عن فلسطين عام (1948). وفي العام ذاته أصدر أولى مجموعاته القصصية بعنوان: «بنت الساحرة»، ومع انقلاب حسني الزعيم في (1949) ترك العجيلي العمل السياسي، واكتفى بممارسة الطب والكتابة التي يقول عنها: «إنني لا أنظر إلى الكتابة الأدبية كعمل بل كنوع من أنواع السلوك».
عاد الأديب الراحل إلى العمل السياسي بعد الانفصال عام (1961)، إثر دعوات تلقاها من بعض السياسيين في سورية آنذاك، ليكون وزيراً للثقافة والإرشاد القومي في حكومة بشير العظمة في عهد الرئيس السوري ناظم القدسي عام (1962)، ثم وزيراً للخارجية وأخيراً وزيراً للإعلام في تعديل حكومي حينها.
عيّن العجيلي في تلك الفترة صديقه الشاعر نزار قباني وكان موظفاً في وزارة الخارجية، بالسفارة السورية في مدريد، وبرر ذلك بالقول: «نزار شاعر، وإسبانيا تحتاج إلى شاعر». وبالفعل أصابت نظرة العجيلي فقد أبدع الراحل نزار قباني، وكتب أجمل قصائده والتي عُرفت بـ«الأندلسيات»، وقال عنه نزار قباني الذي لبى دعوة العجيلي، وأقام أمسية شعرية في محافظة الرقة: «العجيلي أروع حضري عرفته البادية، وأروع بدوي عرفته المدينة».
جاب العجيلي أصقاع العالم، لكنه كان يعود إلى الرقة في نهاية المطاف، فلم يكن يعرف الراحة إلا باستنشاق هوائها، والمشي فوق جسرها، فيقول عن ذلك: «إذا لم يكن ارتباطي بالرقة عاطفياً فهو على الأقل ارتباط واجب، بلدة عشت فيها، أهلي فيها وأصدقائي فيها، وهي التي زودتني بما بنيت عليه حياتي المستقبلية من علم ومقام اجتماعي وإمكانيات مادية، من العقوق أن أتركها لمجرد أن هناك بلداً أحسن منها».
تمكن العجيلي من خلال انخراطه في العمل السياسي أيام الشباب، حين كان الحراك السياسي نشطاً في سورية، من التعرف إلى عوالم لم يكن يعرفها غالبية أبناء الرقة، القرية الكبيرة البعيدة عن العاصمة، والتي كانت تحتاج الصحف والمجلات أياماً طويلة كي تصل إليها، كانت الرقة حينها ترتبط بالمدن السورية الكبرى مثل حلب وحمص والعاصمة دمشق عبر جسري (الرشيد ـ المنصور)، وأفتتحت في تلك الفترة مكتبة «بورسعيد» (1957) أقدم مكتبات الرقة القائمة حتى اليوم، لتكون نافذة الرقة نحو العالم، فلا يمر يوم دون أن يزورها العجيلي حين يكون في الرقة، وهو القائل: «هناك مكانان إن لم أزرهما يومياً، لا أعتبر أنني عشت يوماً طبيعياً، هما مكتبة بورسعيد، وجسر الرقة القديم». وانتشر أدب العجيلي فوصل إلى مختلف دول العالم، فصار الأديب الراحل جسر الرقة الثالث الذي لم تتمكن حمم الموت من تدميره كما فعلت بجسري الرشيد والمنصور، فنقلها إلى العالم، ونقل العالم إليها، وتمكن من وضعها على الخارطة الثقافية والأدبية في سورية والوطن العربي، والعالم من خلال ترجمة أغلب أعماله الأدبية والتي تزيد عن الأربعين بين الشعر والقصة والمقالة والرواية وأدب الرحلات إلى أغلب اللغات العالمية.
وضع العجيلي أسساً متينة في الثقافة والأدب، وتابع من بعده أدباء الرقة ــ الذين شقوا طريقهم في عوالم الأدب ــ مسيرة الإبداع، فكان لكل منهم أسلوبه المتفرد، وأذكر منهم الشاعر والكاتب الراحل الدكتور إبراهيم الجرادي، والأديب الدكتور والناقد الراحل عبدالله أبو هيف، والأديب القاص الراحل خليل جاسم الحميدي، والقاص الراحل رشيد رمضان، والشاعر الراحل عبد اللطيف خطاب، والأديب الراحل محمد جاسم الحميدي، والكاتب تركي رمضان، والروائي أحمد المصارع، والأديب الروائي إبراهيم الخليل، الذي يكتب ببراعة لغوية متفردة قل نظيرها، ورغم تفوق بعض أبناء الرقة في كتاباتهم حتى على بعض ما كتبه العجيلي، إلا أنه ظل متربعاً على عرش الأدب الرَّقّي، لأن الظروف السياسية والزمكانية التي عاشها العجيلي لعبت دوراً كبيراً في مسيرته الأدبية، وأتاحت له سُبلاً لم تُتح لغيره، إضافة إلى العامل المادي الذي يفتقر إليه أغلب أدباء الرقة.
يتمتع الدكتور عبد السلام العجيلي بمكانة كبيرة في نفوس الرّقّيين، ليس المعنيين في الثقافة والأدب وحسب، إنما لدى جميع الشرائح الاجتماعية، وهذا ما جعله حاضراً حتى في الأغاني التراثية الرقية، ومنها:
(غربي طاحونة عياش حس النجر بالليلي … وآني دخيل الدكتور عبد السلام عجيلي)
مُنح الأديب الراحل وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام (2004)، وكرّمت الرقة أديبها في غير مناسبة، وأُطلق اسم الدكتور عبد السلام العجيلي، على الشارع الذي يمتد من مركز مدينة الرقة إلى جسر المنصور (العتيق)، وسُميت قاعة المحاضرات في مديرية ثقافة الرقة باسمه، إضافة إلى وضع تمثال نصفي له أمام القاعة، وسُميت إحدى الجادات في العاصمة دمشق باسمه، وشهد عام (2005) إطلاق مهرجان العجيلي للرواية العربية، والذي ظل يُقام سنوياً حتى نهاية عام (2010)، ليتوقف مع اندلاع الأزمة في البلاد.
رحل العجيلي تاركاً عشرات المؤلفات المطبوعة، ومخطوطات لم تُطبع فسُرق بعضها، ومكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية، يحرص عليها، ويحفظها نجله الطبيب حازم العجيلي الذي يُقيم في منزل العائلة في حارة العجيلي وسط مدينة الرقة.
تستحق سيرة حياة الأديب الدكتور العجيلي أن تُكتب لتكون مسلسلاً تلفزيونياً يُعرّف العالم بالرقة الحقيقية من خلال مسيرة أحد أهم رجالاتها، قبل أن يتم تشويه صورتها وتدميرها عام (2017)، وهذا ما أتمنى أن يكون في المستقبل القريب.
Q media