في روايتها الأولى “دفاتر فارهو”، الصادرة عن منشورات المتوسط (2018)، تحاول الروائية العُمانية ليلى عبد الله أن تسردَ تفاصيلَ واقعٍ أغرب من الخيال، وتقريب صورةٍ مدمّاةٍ مجرد استذكارها يبعث على الشعور بالألم، ويوقظ الحسّ الإنساني الرهيف من غفلتهِ، دون أن يخلو من مهارة السرد الواقعيّ السحري بحرفيةٍ قادرةٍ على جذب قراء الألفية الجديدة.
أن تسردَ العنفَ، بكلّ تلك البساطة و الدقة في آنٍ واحدٍ، وتكشفَ فداحة صورة مخيمات اللجوء كما لو كانت ترسم لنا الواقع ماثلاً أمامنا، صورةَ العالم الدنيء ومخلوقاتهِ الجشعة وأطفالهِ الذين تمصّ السلطات والحكومات دماءهم كما لو أنهم يسكبونها في كؤوسهم عوضاً عن النبيذ !
في “دفاتر فارهو” تحكي الكاتبة عن صور الطفولة المنتهكة والتي تتجاوز بلداً واحداً حتى تُظهرَ القواسم المشتركة بين الأطفال النازحين عن أوطانهم، ومن مختلف الجنسيات العربية وغير العربية، فأمام الحرب والجشع والسلطة الكلّ سواسية، ولا لغة تنطق وتسود إلا لغة المال والجنس والدم.
بطلُ الرواية “فارهو” أو “فارح حسنو” والذي يستعرض في عمرِ الثالثة والأربعين، دفاتر ذاكرته التي خبأها لنفسه خلال فترة سجنه أمام صحفي يوثق حكايته، بسيرة ذاتية تبدأ بصورة طفلٍ يعيش في مخيمات الصومال – مخيم بوصاصو – من أبٍ صوماليّ مسلم وأمّ مسيحية أثيوبية، جمعهما النزوح والحرب في وقتٍ كانا فيه وحيدين لدرجةِ أن فوارق الحياة و الدين كلها طُمست تماماً، يُنجبان طفلاً وهو فارهو الذي يدرج اسمه بتلك الشاكلة على الألسنة في المخيم، وعائشة، الطفلة التي تضطر لاحقاً، وخوف الموت جوعاً، أن تقدم عذريّتها داخل المخيم لقاء صندوق مؤونة.
ومن جحيم المخيم، تبدأ الكاتبة بسرد الآلام نزفاً على نزف، عن أطفالٍ عراةٍ حفاةٍ، يبكي العالم عليهم فقط من خلف عدسات الكاميرات، وشاشات التلفزة. جوعى ومحرومون، كبروا مع كلمات الحلال والحرام، ومع ما يجوز وما لا يجوز . مع المباح والممنوع، المباح الذي كان حلماً والممنوع الذي كان الواقع الوحيد.
وعن “البدون”، البشر الذين وجدوا على هذي الأرض بدون أوطان حقيقية سوى أوطانهم التي تبرأت منهم. يختفي والد فارهو في البحر , لتبدأ رحلة المعاناة داخل المخيم فتضطر العائلة للجوء لإحدى دول الخليج بمساعدة خالٍ جشعٍ “منغستو” أو “منصور” والذي يُكتشف لاحقاً أنه عضو في شبكة دعارة وعصابة تتاجر بالأعضاء البشرية، يستغل حاجته لأسرة وظهور محترم يتعطش إليه أي غريب، ليستكمل فارهو وأسرته بعدها مسغبة الحياة في أحياء الصفيح والنزوح، بين باكستانيين وصوماليين وأفغان وهنود، وغيرهم من الذين لفظتهم قسوة بلادهم، لتبدو الحياةُ في تلك البلاد أقرب للموت مع والدة، مريضة عليلة، تعمل في جمع القمامة، وأختٍ بريئة حنون اعتادت الجري خلف مركبات المعونة الإغاثية .
وعلى أرضٍ لا تطلق عليهم سوى “غرباء”، يسرد فارهو للصحفي كارل جائحة الغربة والفقر والذل في سبيل الحصول على قبول الطرف الآخر له، الطرف الذي يتمتع بكامل حقوقه على أرضه. ويغرق في مقارناتٍ غير عادلة من مثل إيفاد الأطفال الوافدين لمدارس مسائية ومنعهم من الاختلاط مع أبناء الخليج في المدارس الحكومية، إلى نبذ الزواج بهم، أو حاجتهم المستمرة لرضا الكفيل الخليجي الذي يبتزّهم من خلال خالهم الجشع حتى يحصل في النهاية على أخته عائشة الطفلة، ويتخذها زوجة رابعة.
وحيث ينمو الأطفال محاطين بالخطايا، تحت مسمى الدين والالتزام، تختلف أسباب الآلام لأطفالٍ تكالبت عليهم اوجاع العالم الذي ما عادت صلواته تكفي، ولا تمنح السلام لأرواحٍ سُلخت حتى العظم من شدة الألم. لتصبح الحياة في المنفى بمثابة القفز من فخّ إلى آخر، كما لو أنها مطاردة شرسة وراء لقمة العيش مع والدة مريضة وأختٍ كبرت بين وحول المخيمات وحملت وأجهضت فيها وتبردت أحلامها بطعنة رجلٍ خرق براءتها.
ورغم ثرائها تلك البلاد – بلدان الخليج – فقد أغرقتهم بظروفٍ تنهي طفولتهم، وأزمةٍ تسلبهم هوياتهم، حيث يبدو فيها كل شيء قابلاً للمضاعفة إلا مداخيلهم الشهرية.
يقول فارهو : “بمجرد أن تطأ أرضاً غير بلادكَ، تتبدلُ كلياً , شئت أم أبيتَ، هذا قدرك” ويتابع بسخطٍ وألم:
“الناس هنا لا يموتون من الجوع أو الفقر، إنما من السيارات المسرعة، وتناول الأطعمة الجاهزة حتى التخمة. من البلادة، من الوحدة والثراء !”.
تُنهي الكاتبة على لسان فارهو وأصدقائه في المدارس الخيرية. قاسم الذي فقد والدتهُ حرقاً بتهمة كتابة الشعر بعد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، وعبد الصمد الباكستاني الذي فقدت والدته يدها قطعاً جراء عملية سرقة خطرة، إلى جانب فارهو الذي تتوه براءته ونقاؤه وسذاجتهُ بعد أن تتبخر على يد خاله ليصنع منه القالب الذي يستوعبه الزمن الوحشي الغادر.
تلك الظروف، بمعونة عصابة خاله، تزج فارهو في ممارسات إجرامية عبر دوره في اقتياد الأبرياء الأثرياء من أهل الخليج والإيقاع بهم، بحجة ضياعهِ إلى جحور العصابة، حيث يتم قتلهم وبيع أعضاء أجسادهم، فيرضخ فارهو مرة بعد أخرى أملاً في جمع مال لعلاج والدته المريضة إلى أن يصل للحظة الحاسمة بعد أن تطلب العصابة إليه، وجهاً لوجه، اقتياد صديقه الحميم “سيف” ابن العائلة الخليجية الثرية.
الخلاصة :
“هل الله عادلٌ يا كارل ..؟ سلبَ مني الوطن والأمان والأب مع أمٍّ مريضة”.
بهذي الجملة التي تصف محنة البدون، محنة من لم تمنحهم البلدان البديلة الأمان الذي ينشدونه، حيث تودي بهم المعاملة الفظة والمكانة الهامشية للانقياد خلف طرقات الجريمة، والتي تفضي بأشخاصٍ غير أسوياء وأحداثٍ مأساوية.
رواية تحكي عن أزمة المجاعات، والحروب الأهلية، عن الانتهاكات التي يتعرض لها أطفال العالم الثالث جراء سياسات جائرة لا يد لهم فيها، فاتورتها تُسَدَّدُ من أجسادهم ودمائهم.
يذكر عن الكاتبة العُمانية “ليلى عبد الله” أو “ليلى البلوشي”، مقيمة في الإمارات العربية، وصاحبة مدونة “أتنفس بهدوء” صدر لها: “رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن”، تكتب في أدب الطفل والنقد، وتدير الآن قناتها الثقافية الخاصة على تيلغرام “هواجس غرفة العالم”.
بعد التحیة والسلام
روایة” دفاتر فارهو” هي من ضمن الروایات التي تطرح و تعرض الإسئلة المکررة في عالمنا الثالث. ومدی الظلم و الاستبداد و التحقیر الذي یلاحق الدول المتخلفة التي تصب جام غضبها علی أبناء جلدتها، حیث یصبح هذا الطفل و تلک العائلة ضحیة هذه التناحرات و الاصدامات الهالکة للشعوب. ومما یلفت النظر أن أزمة الهویة في السرد الروائي علی قدم وساق. وهذه الموضوع لیس جدیدا في النصوص الروایة و أری تشابها کثیرا و مواضیعا متناغمة مع روایة”دلشاد” لبشری خلفان.