منذ زمن ليس ببعيد، صرت أشعر أن أشياء كثيرة لم تعد تعنيني، أو تستحق حتى التفاتة مني، لا عدد الأصدقاء الافتراضيين ومدى تفاعلهم، ولا حتى الواقعيين ومدى تواصلهم، ولا عدد قراءات مقالاتي، أو كم كلمة “منور” على صورتي الشخصية، لم يعد يعنيني من يتحدثون عني بسوء، أو من يتحدثون بخير، من أعجبهم، ومن لا أعجبهم، ولم تعد تعنيني آراء المثقفين والأكاديميين والعوام والأميين، ولم تعد تعنيني جوائز الأدب والصحافة ومن يفوزون بها، ولا طرق فوزهم، ولا الدعوات إلى المهرجانات والأمسيات، ولا “مرحات” سفراء الإنسانية والسلام، ولا شهادات الدكتوراة الفخرية الفيسبوكية، ولا كمية النفاق والمجاملات والكذب والخداع التي يتبارى كثيرون فيها…إلخ.
خمنت في البداية أنها حالة مؤقتة عابرة، إلى أن تيقنت أخيراً أنها أبعد من ذلك بكثير، وأسعدني ذلك إلى حد كبير، وقلت في نفسي لعل الطقس البارد لعب دوراً في ذلك، إضافة إلى عشرة سكان هذا البلد الأصليين، فوجدت نفسي تنشغل في لحظة، بمراقبة خلية نحل في شرفة منزلي، تعرف كل نحلة فيها طبيعة عملها، وأهمية دورها، دون أن يأمرها أحد، أو يراقبها أحد، وتراها تعمل دون خوف من تقرير كيدي ينهي دورها، ويُفقدها جناحيها، ويرميها في أقبية الخلية، كما شغلني “شارب” صرصور تسلل إلى إحدى زوايا المنزل، وكيف يمكنه المحافظة عليها بهذا الشكل رغم ضيق الأماكن التي يندس فيها، وهذا ما لم يستطع فعله “محمود الفوال” في مسلسل أيام شامية، وخطر لي هل يمكن للصرصور أن يرهن شاربه؟
إن بلوغ المرء هذه المرحلة يعطيه شعوراً بالراحة والطمأنينة، ويخلصه من النزق، ربما هي مرحلة من مراحل النضج، أو الجنون، أو اللامبالاة، أو مرحلة متقدمة من مراحل اليأس، وفقدان الأمل بكل شيء، لست أدري تماماً، ولا أريد الغوص في خفايا نفسي لمعرفة أسبابها وتبريرها، فكل ما يهمني المحافظة عليها، وضمان استمراريتها بكل الوسائل الممكنة، لما تمنحه لي من إحساس جميل لا أريد له أن ينتهي.
لقد عشت قرابة ثلاثة عقود في الشرق الذي وُلدت فيه، وانتمي إليه، ونحو ثلاث سنوات في الغرب الذي أشعر بالغربة عنه، وتعاملت مع وجودي فيه كنتيجة حتمية لظروف خارجة عن إرادتي، وبقيت خلالها أبحث عن أجوبة للأسئلة الكبيرة، ما الذي أوصلنا إلى هنا، ومن المسؤول عن كل ما جرى، وكيف يمكننا تجاوز أفعال الموت والتخوين والضياع، والوصول إلى بر الأمان بعد كل الخسائر والخيبات التي جنيناها.
أسئلة مُضنية، سيكتشف الباحث عن أجوبتها أنه يطرد سراباً في صحراء مقفرة، ومهما تكن الإجابة التي يصل إليها لن تُقنع أحد، مهما كانت منطقية، لأننا في زمن اللا منطق، واللامعقول، الزمن الذي صار هم أي شخص إطلاق الرصاص على الآخر، رصاص الكلمات، رصاص الحروف، رصاص البنادق، وكأنه لا يمكن أن يكون إلا بقتل الآخر المختلف، وحالة الضياع والتشظي هذه تستمر وتترسخ لتتحول كلما طال الزمن إلى طبيعة، وأسلوب حياة، بدأنا نحصد نتائجه، وسنظل نتخبط كأسماك في شبكة، إن لم نؤمن أن البحر يتسع للجميع، من سمكة “الخرّايا”، إلى “السلمون”، والقرش والحيتان، وأن “الخرّايا” ستظل كذلك، وإن بلغت حجم حوت، وفتكت بنا كقرش.
أنت كائن لا تحتمل كفته مثلما قال كونديرا