راينر ماريا ريلكه | ترجمة: أسامة أسعد |
قد لا أزال مطمورًا في بواطن الجبال
معزولًا مثل عرق من المعدن الحر؛
أنا تائه في هاوية بلا قرار،
في ليل عميق بلا أفق.
كل ما يأتي إليّ، يشدُّ عليّ ويستحيل حجرًا.
لست أدري بعدُ كيف أتألّم كما ينبغي،
وهذا الليل الشاسع يخيفني؛
ولكن إذا كان هذا الليل ليلك، فليكن ثقيلًا،
فليسحقني،
بيدك كلها فوقي
وأضيع فيك بصرخة.
أنت، الجبل، الوحيد الثابت في فوضى الجبال،
منحدر بلا ملاذ، قمة بلا اسم،
ثلج أبديّ تشحبُ من نصاعته النجوم،
أنت الحامل في جنباتك الأودية الكبيرة
حيث روح الأرض تتضوّع عطرًا وشذى.
هل تهتُ فيك أخيرًا،
متحدًا بالبازلت مثل معدن مجهول؟
ممتلئًا عبادةً، أذوب في صخرك،
وأينما كنتُ أصطدم بقساوتك.
أم أنه القلق الذي يضمُّني إلى صدره،
قلق المدن الكبيرة العميق،
حيث غرزتَني حتى العنق؟
آه، لو أن امرءًا كان يستطيع
وصف جنونها وفظاعاتها،
لهببتِ في الحال، يا عاصفة العالم الأولى،
وطردتِها أمامك كالغبار.
ولكن إن كنتَ تريد أن أكون مَن يتكلّم،
فلن أستطيع، لأنني لا أفقه شيئًا؛
وفمي، مثل جرح،
لا يطلب سوى أن يلتئم،
ويداي تلتصقان بي مثل كلابٍ
صمّاء لكل نداء.
مع ذلك، ذات مرة، ستجعلني أتكلّم.
فلأكن حارس آفاقك كلها
اسمح لنظرتي المتعافية المتسعة
أن تحضن مدى البحار فجأةً.
اجعلني أتبع جريان الأنهار
كي أسمع وراء صخب ضفافها
صعود صوت الليل الصامت.
قُدني عبر وديانك التي تحرثها الرياح
حيث مثل كفنٍ، تلفُّ أديرةٌ مُرّةٌ بين جدرانها
حيوات لم تعِش.
فالمدن الكبيرة، ربّاه، ملعونة؛
وذعر الحرائق يختبئ في صدورها،
أوقاتها محسوبة
لا تنتظر مغفرة.
هنا، بشرٌ يكدحون ليحيوا بائسين،
دون أن يعرفوا لماذا تعذّبوا؛
لم ير أحدٌ التكشيرة المريرة
التي خرجَت من عمق الليالي التي ما لها من اسمٍ
لتزيح الابتسامة السعيدة لشعبٍ ممتلئ إيمانًا.
يهيمون على وجوههم، مهانون بالجهد المبذول
في خدمة أشياء مجرّدة من المعنى،
وشيئٍا فشيئًا تهترئ ثيابهم، تستحيل أسمالًا
وأياديهم الجميلة تذبل باكرًا.
تتدافعهم الحشود، وتمضي لا مبالية،
على الرغم من كونهم حائرين ضعفاء،
وحدها الكلاب الخائفة، الشاردة،
لوهلةٍ، تتبعهم بصمت.
هاهم قد تُركوا ضحايا عدد لا يحصى من الجلادين
وكل ساعة تدقّ تؤلمهم؛
يتسكعون، وحيدين، حول المشافي
ينتظرون قلقين أن يُقبَلوا.
ها هنا الموت يتربّص. لا، ليس ذلك الموت
الذي مسّهم صوته في طفولتهم،
بل الموت التافه كما يُرى هنا؛
بينما تتدلّى منهم نهايتهم مثل ثمرة مُرّة،
تظلّ خضراء، ولا تنضج.
آه يا إلهي، هَب لكل امرئٍ موته،
هَب لكل امرئٍ الموت الذي وُلد من حياته
حيث عاش الحب والبؤس.
فنحن لسنا سوى اللحاء، سوى الورقة،
لكنّ الثمرة التي تمكث في لبِّ كل شيء
هي الموت العظيم الذي نحمله فينا.
فلأجله تتفتّح الفتيات جمالًا،
ويحلم الأطفال في أن يصيروا رجالًا
ولأجله يفضي المراهقون للنساء
بالقلق الذي لا يريد أن يسمعه غيرهنّ.
لأجله تدوم الأشياء إلى الأبد
حتى حين يمحو الزمن الذكرى،
وكل من يجهد ليبدع في حياته شيئًا،
يسيّج في داخله ثمرة كونٍ
يجلّدُه تارةً، وطورًا يدفّئه.
في هذه الثمرة
يدخل دفء القلوب كله، وبريق الأفكار الأبيض،
لكنّ ملائكة جاؤوا مثل غيمة من العصافير
وكانت الثمار كلها بعدُخضراء.
رباه، نحن أتعس من الوحوش البائسة
التي، عمياء حتى، تنجزُ موتها.
آه، اعطنا القوة والعلم
لنربط حياتنا بشجرة مثمرة
والربيع من حولها يأتي باكرًا.