فِي خيمةِ العزاءِ، فِي كُوّةِ البكاءِ وَعويلِ الفَقد. ضريرُ القريةِ يرثِي بِكرَهُ الغائِبَ، وَأُمٌّ عجوزٌ مُتفرِّدةٌ بحزنِها، مَكتومةٌ مُبهمةُ النّظراتِ، وَصَبيَّةٌ يكادُ جمالهَا يفطِرُ قلبَ القمر، تُسمِّرُ النظراتِ على مشبكِ الذّهب في كَفّهَا الأيمن.
لمْ تكنْ خيمةً واحدةً، بل ما تناهى إلى مَسامعي الغارقةِ بالهذيان، وَما جرى على أَلسنةِ المُعَزِّينَ، قدومَ جثامينَ أخرى تنتظرُ فروغَ شيخِ القرية، أحدهمَا لسيّدةٍ أربعينيّةٍ، وَآخرَ لطفلةٍ كانتْ تحاولُ بعينيهَا، عينيهَا الخبيئتَينِ السَّعيدتين، أن تقطفَ قُبَّرةً ترتعشُ بين أغصانِ تينةِ التلّة الشرقيّة السّامقةِ، فكانَ ما كان. وَكانَ شهرُ مايو، أيّارَ الملكِ ذي الأضلعِ البرّيةِ، بِمِديتِهِ الصّنوبريّة، يحصدُ ما يحصدُ من أرواح، وَيستكينُ إلى عرشهِ مُنهمكاً بصياغةِ الموت في باهتاتِ الليالي الطّوال، بينما أنهمكُ هاربةً خارجَ الخيمةِ , بعينينِ غائِمتين سائِحتين، وَصوتٍ يرتِعشُ هَلِعاً ـ ربّما هذا العام ـ كلّهُم سيرحلون في مايو !
كانَ من الممكن أن يكونَ ذلكَ عنواناً لنَصٍّ ما، حيثُ تصيرُ الكتابةُ منفى، أو ذكرى في دفتر مذكّراتٍ جِلدَتُهُ الخيشُ وَالصُّبَّير وأوراقهُ أشواك ! إلّا أنّ ما حصلَ تالياً أسقطَ مايو عن عرشهِ، وما حَملهُ يونيو، حزيران، حاصدُ الحنطةِ، الذي راح يقتاتُ على الدمِ عوضاً عن القمح، جابَ الشوارعَ كما لو كانت حقولاً، وبضربةِ منجلٍ وحيدة، بتفجيرٍ وحيدٍ، قبضَ على أرواحِ أطفالِ الحيِّ المجاور ومضى، يُخاتلُ الأقدارَ مُبتهٍلاً، وربّما سعيداً كمصّاصِ دماء، حينها، بدّلتُ ظنّي وَجزمتُ أنهُ ربما هذا العام كلّهم سيرحلونَ في يونيو.
ومن تمّوزَ الإله، تمّوزَ الذّي أَوهمُونا أنهُ الحياة، حيثُ فقدَتْ مدينةٌ شماليّةٌ كتِفَها الأيسرَ، ومضى بعدها بذاهبٍ يموتُ وَحَيٍّ يعود، ومن مدينةٍ إلى أخرى، ومن شهرٍ إلى آخرَ، كانت تتوالى انزياحاتُ الشّهورِ عن عروشها، حتى مجيْء جبّار مدنِ المياه، آب المعتزّ بنفسهِ، أغسطس الزاحف نحوَ الشرقِ، يغْسو الليالي بظمئهِ اللاهبِ الحارقِ، يُصارعُ سبتمبر، أيلول الجائر، الذي راحَ يحرم الناسَ الحزنَ والفرح في آنٍ واحدٍ، وبهِ فقدت المدينةُ شاعراً كبيراً لم يمشِ في جنازتهِ أحد، إلى ما تلاهُ حين فُقِدَ عالِمٌ طَيّبٌ، ولم تعد بعدهُ تُنصبُ الخِيام، بل صارتْ الأرواحُ ترتفعُ من تلقاء نفسِها، دونَ أن تتكلّفَ لزيارة المقابرِ عناء.
وَلم تكنِ الشهور التالية أكثر رِقّةً، وَلم يكن مارسُ الهدّارُ ولا جانورا، يناير، برأسيهِ الرّومانيَّين بأرحمَ من سابقيهِ، بل أرسلَ كثيرينَ إلى الماضي وآخرين نفَاهُم إِلى عُتُوم المُستقبل، وَظننتُ بعدَ مجيئهِ، وَلشدّة ِالأهوال، أننّا جميعاً سنرحلُ في يناير، بعدَ أن صارَ الوطنُ منكوباً، ولم يبقَ لي منهُ، إلّا أنتَ، حبيبٌ بِساقٍ واحدةٍ وقلبٍ نصف مفتوحٍ وصوتٍ ناصِعٍ مُضيءٍ، صوتكَ الأبيضُ الذي راحَ يَخفُتُ و يبهتُ يوماً بعد آخرَ، ويُظلِمُ ويسودُّ شيئاً فشيئاً، كَلونِ الحربِ وكحالةِ الظلم، إلى أن عادَ مايو من جديدٍ، في وقتٍ كانتْ فيهِ كمنجاتُ “درويشٍ” تبكي على حياةٍ ضائعةٍ لن تعود، وتبكي، ربما على وطنٍ ضائعٍ قدْ يعود، وَلَم ينصرِمُ سلطان مايو ملكِ القِفار عن مرامِي عينيَّ، إلّا بعدَ أن رفعكَ إليهِ، وجلسَ على عرشهِ من جديدٍ، وَعلى شفتيهِ ترتسمُ ابتسامةُ الغجريّ المحتالِ، حينها استسلمتُ، وَحينهَا أيقنتُ وأدركتُ، أنهم كلّهم بلا استثناء، كلّهُم في مايو يرحلون.