قيصر أبو زر، موسيقي وفنان سوري، من مدينة الرقة، اختار الموسيقى سبيلاً للحياة، فتمكن من خلق مساحته الخاصة على ضفاف نهر الفرات، والتي اتسعت لاحقاً حتى وصلت إلى مسارح العاصمة الفرنسية باريس، هذه المساحة التي صنعها أبو زر لم تعد خاصة به، إنما صارت مقصداً لكل من يدركون المعنى الروحي للموسيقى، المعنى الذي يُعبر عن مكونانتهم، فتمكن الفراتي أبو زر بعد فترة وجيزة من وصوله إلى باريس، من إثبات حضوره من خلال لغته الموسيقية الخاصة، ليُثبت مُجدداً أن “الموسيقى لغة عالمية لتبادل العواطف” كما يقول فرانز ليست، مجلة قلم رصاص الثقافية حاورت الفنان السوري قيصر أبو زر، لتقديم تجربته الموسيقية لمتابعيها.
ـ من أنت؟
قيصر أبو زر، سوري، “رقاوي”، من أصول أرمنية، ولدّتُ على ضفّة من ضفاف نهر الفرات العظيم، النهر الذي أحببتُ والذي أنتمي إليه ما دمتُ على قيد الحياة، لعائلة من الطبقة المتوسطة، لوالدين عملا في سلك التعليم. عشتُ كل طفولتي ومراهقتي وبداية شبابي حتى عمر 26 في مدينة الرقة السورية، هذه المدينة الفاتنة التي أعطتني كما أعطت باقي أبنائها، قلباً طيباً شجاعاً يحب الفنّ ويحبّ الحياة.
ـ هل سعيت إلى الموسيقى أم هي من سعت إليك، ولماذا؟
حكايتي مع الموسيقى هي حكاية ذات طابع تراجيدي بعض الشيء، أحب في بعض الأحيان أن اتذكرها وأحياناً أحس العكس تماماً. بدأت الغناء قبل دخولي المدرسة وتعلمت الغناء قبل أن أتعلم كتابة الحروف التي تكوّنَ منها اسمي. أمي كانت محبّة للغناء والموسيقى وخاصة الغناء العراقي، وكانت متأثرة كثيراً بأخيها المطرب الجميل عبد الرزاق أبو زر أو كما لقب “العِماري”، وبدوري تأثرتُ به وكان خير معلم لي في صغري، والطرب العراقي هذا ليس بغريب في مدينة الرقة، كما تعلمون. فطالما أحبّ الرقّيون الغناء والموسيقى العراقية بشغف كبير. ولكن أمي كانت بالحق مدرّسة ناجحة بالفعل فقد اسمعتني نماذج عديدة من الطرب العربي الجميل وحتى الطرب الكردي والأرمني والتركي. ولا أنكر أن هذا التنوع وهبني بالفعل ذخيرة موسيقية ساعدتني كثيراً على تخطي حواجز اللغة والقوميات فيما بعد. فقد علمتنى أغاني لأكبر المطربين العرب مثل أم كلثوم وفيروز وصباح فخري وسعد البياتي والياس خضر. وعندما دخلت المدرسة دخلت معي الموسيقى وغنيت للمرة الأولى أغنيتي المفضلة آنذاك (يا أمي يا أم الوفى) أمام المدرّسين. لا أنسى أبداً هذا الموقف عندما انتهيت من الأغنية فوجدتُ أغلبية الموجودين من المدرسين يبكون، كانت صدمة بالنسبة لي حين أحسست بهذا القوة الغريبة التي أملكها، مع العلم أني كنت أعاني في هذه الفترة من صعوبات كبيرة في التكلم إثر حادث سير حصل لي وأنا في عمر الثالثة.
باختصار وجوابا على سؤالكم. الموسيقى سعت إلي في بداية حياتي، وأنا أسعى إليها الآن بكل ما أملك من قوة. الموسيقى أعطتني حياة أفضل وساعدتني على تخطي حالتي المرضية كما أعادت لي ثقتي بنفسي. وأتواصل من خلالها مع سكان العالم.
ـ في كل مشوار إبداعي هناك أشخاص نتأثر بهم وأشخاص ندين لهم، بمت تأثر قيصر، ولمن يدين بكلمة شكر؟
في الحقيقة، تأثرت بكثير من الفنانين وخاصة العراقيين منهم وكان مستوى التأثير يتراوح بحسب المرحلة العمرية التي كنت أمر بها. ولكن بالنسبة للفنانين الذين كانوا قريبين مني وأثّروا فيّ عن قرب، فقد تأثرت في طفولتي تأثّراً كبيراً بخالي الفنان (العماري) وبأسلوبه في الغناء الريفي الشَجِن، وأدين له بكثر من المحبة والتقدير على ما علمني. هذا فيما يخص الغناء، أما فيما يخص الموسيقى فأستاذي عازف البزق “أحمد دالي” الذي كان أول أستاذ لي على آلة البزق. ولا أنسى طبعاً من أصدقائي، الصديق “عبد الله النجم” عازف العود الذي أفادني كثيراً وكان لي سنداً. وعازف البيانو الجميل “حسين الإبش”. عندما بدأت العزف على آلة موسيقية ودخلت عالم الموسيقى بشكل حقيقي أصبح تأثّري بالموسيقيين أكثر من المغنين، فأصبحت أميل إلى سماع الموسيقى الآليّة فقط دون الغناء. حيث أصبح الموسيقار الكبير منير بشير وجميل بشير هما مثلي الأعلى. ولا أنكر أني أميل الى الموسيقى التركية أكثر في الوقت الحالي. والموسيقى الجميل عازف القانون “جوكسال باكتاجر” الذي حصل لي شرف لقائه منذ أيام في باريس.
ـ أنت تعزف على أكثر من آلة موسيقية، فما هي الآلة الأقرب إلى روحك، ولماذا؟
آلتي الأولى كانت البزق، ثم انتقلت إلى آلة الكمان ثم إلى آلة العود التي أختصّ عليها في الوقت الحالي. وأنا بصراحة تعلمت الآلات التي أحببتها كثيراً ولكن لآلة البزق (آلتي الأولى التي اخترتها والتي انتظرت خالي لأشهر حتى يشتريها لي من حلب) لها مكانة خاصة في قلبي أعتقد أنها لم تتغير إلى الآن.
ــ هل صار لدى قيصر أرشيفه الموسيقي ومؤلفاته الموسيقية الخاصة؟
لي مؤلفات موسيقية آلية لآلتي البزق والعود، وهي مجموعة من المقطوعات الموسيقية من قالب(لونغا) ومقطوعات موسيقية حديثة حرة أقوم حالياً بالعمل على توزيعها مع بعض الموسيقيين هنا في باريس حيث أقيم حالياً. أما فيما يخص القطع الغنائية فلدي ما يقارب عشرة قطع غنائية أنتظر الظروف المناسبة لتسجيلها ومن ثم نشرها بأقرب وقت ممكن.
ـ درست اللغة العربية، لماذا لم تتجه نحو دراسة الموسيقى؟
هذا هو بصراحة السؤال الذي أحاول أن أجيب عنه الآن في هذا الوقت تماماً. حيث أقوم الأن بالتسجيل بأحدى مدارس الموسيقى الحكومية في باريس بالتوافق مع دراستي للأدب. هذا الهاجس انتابني لسنوات طويلة. لماذا لم أدرس الموسيقى؟ سؤال طرحته على نفسي طوال خمسة عشر عاماً ولم أصل إلى إجابة محددة سوى أني كنت خائفاً من أن أكره الموسيقى كما كنت أكره درس الرياضيات.
على الرغم من ذلك علاقتي مع الموسيقى لم تنقطع في أي مرحلة من مراحل دراستي، فقد كانت الموسيقى حاضرة في حياتي الدراسية بشكل قوي وملحوظ حتى الآن. ففي المرحلة الجامعية كتبتُ العديد من الأبحاث التي تخص الموسيقى والأدب معاً، وفي الحقيقة، كان هاجسي منذ سنوات أن أعمل على أبحاث تجمع الموسيقى والأدب. والآن والحمد لله أنا أعمل على رسالة ماجستير عنواناها “الموليا الفراتية.. بين الأدب والموسيقى”، بإشراف مدرسين من خيرة الاختصاصيين في مجال الشعر العامي والميوزيكولوجي في جامعة إينالكو في باريس.
ـ كيف ترى الثقافة الموسيقية في سورية، ولماذا هي كذلك برأيك؟
المجتمع السوري هو مجتمع محب للموسيقى بطبعه “باعتقادي”. وأنا أرى حولي من الموسيقيين السوريين مَن ترفع لهم القبعة، صراحةً. ولكن مشكلة الثقافة الموسيقية هي شيء آخر، فالثقافة الموسيقية تحتاج إلى عمل متواصل من قبل الحكومة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لكي تصل بالفرد إلى درجة الوعي الموسيقي أو الثقافة الموسيقية التي تتطور معها الكثير من المعارف الأخرى وحتى سلوك الفرد. لكن نحن في سورية وخاصة في الفترة الأخيرة التي سبقت الثورة السورية عانينا من أمراض كثيرة في هذا المجال بسبب إهمال المؤسسات الحكومية للجوانب التثقيفية وصعود نجم الأغاني الإلكترونية وخاصةً الهابطة منها على حساب الفن الحقيقي.
ـ الأغاني والموسيقى الهابطة انتشرت كثيراً خلال السنوات الماضية، لماذا؟
برأيي أن لكل زمان دولة ورجال، والأزمنة التي سبقت زمننا لم تخلُ من الأغاني الهابطة، ولكن مستوى انتشارها في ذلك الوقت لم يكن بهذه الصورة التي نراها اليوم مع تقدم التكنولوجية. فالثقافة الموسيقية باعتقادي، هي وحدها التي تحمينا من تفشي هذه الأمراض وعن طريقها نميز الحسن من القبيح.
ــ ماذا تقول حين تسمع بالمصادفة مثل هذه الأغاني والمقطوعات؟
لا أقول أي شيء، بل أحاول أن أسمعها إلى الأخير لكي أستطيع أن أحكم أنها بالفعل قبيحة، وإذا لم تعجبني أغيّر مكاني بصراحة، لأن الثقافة الموسيقية تعلمنا أن نسمع القبح والحسن ونحترم القانون الكوني الذي يأكّد اختلاف الأذواق بين البشر. فلا معنى للثقافة الموسيقية إذا لم تعلمنا أن نسمع الآخر حتى إذا كان مزعجاً لذوقنا.
ـ سبق أن أسست فرقة موسيقية للأطفال في تركيا خلال فترة إقامتك هناك، ما هو مصيرها بعد سفرك إلى فرنسا؟
بصراحة، الفرقة التي أسستها في تركيا هي الفرقة الثانية. حيث أسستها بعد خروجي من سورية، أما فرقتي الأولى، فقد كنتُ قد أسستها في محافظة الرقة، وكانت تضم ما يقارب الثلاثة عشر طفلاً، طبعاً لم نستطع إكمال هذا المشروع بسبب ظروف الحرب التي أجبرتني وأجبرت معظم الأطفال على الهروب. أما الفرقة التي أسستها في تركيا فقد كان الهدف الرئيسي من إنشائها هو دعم الأطفال معنوياً ونفسياً بواسطة الموسيقى وتعلمها. لذلك لم أركز على استمرارية الفرقة بقدر ما كان تركيزي منصبّاً على تقويم الحالة النفسية للأطفال بممارستهم للفنون والموسيقى على رأسها. فقد قمنا ببعض الحفلات في تركيا بعد أن عملنا ما يقارب السنة على تعليم الأطفال على آلة الكمان والبيانو فقط، لأنه لم يتوفر لدينا في ذلك الوقت سوى هاتين الآلتين بمساعدة أصدقاء اهتموا بهذا المشروع من داخل وخارج تركيا.
أما بالنسبة لمصير هذه الفرقة، فقد وصل أغلب الأطفال الى مرحلة لا بأس بها بالنسبة للآلة التي يتعلمونها وعندما اضطررت الى مغادرة تركيا تركتُ لكل طفل آلة موسيقية خاصة له. وأعتقد أن من الأطفال من تابع التعلم وهو مستمر إلى الآن، وهذا أفرحني كثيراً ، وقلل من إحساسي بالذنب لتركي لهم دون أستاذ، ومغادرتي تركيا.
ـ هل قدمت معزوفات موسيقية شرقية في فرنسا؟
نعم
ـ كيف كان تفاعل الجمهور الغربي معها؟
الجمهور الغربي جمهور مثقف موسيقياً فهو يستطيع أن يسمع لساعات دون أن تستطيع أن تفسر شعوره. هل هو سعيد بالموسيقى أم لا ؟ لا تعرف. ولكن اعتقد أني نجحت في بعض الأحيان بالتأثير به بشكل واضح.
ـ ما هي المشروعات الموسيقية والفنية التي تعمل عليها حالياً، أو تفكر بها مستقبلاً؟
بدأت منذ العام المنصرم بإنشاء كورال شرقي يضم جنسيات متعددة في جامعة اللغات الشرقية في باريس، بهدف العمل على مشروع موسيقي متعدد الجنسيات الشرقة. وهناك أيضاً قمت بتأسيس أول فرقة موسيقية شرقية تضم خمسة موسيقيين، حيث قمنا بحفلات عديدة في فرنسا. بالإضافة الى عملي على تسجيل مقطوعاتي الموسيقية والغنائية التي لم تتح لي الظروف أن اسجلها إلى الأن.
أعمل مع موسيقي فرنسي على مشروع ألبوم موسيقي يضم (ميكس) من الأنواع الموسيقية والغنائية السورية بالإضافة الى أنواع مختارة من الموسيقى الأوروبية.
كما أعمل على حفل كبير سوف أقوم به مع الكورال والفرقة الموسيقة في معهد العالم العربي في باريس بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية.
ـ مع من تعاون قيصر أبو زر في هذا المجال؟
تعاونت مع الكثير من الموسيقيين، من سورية وخارجها، مثلاً أذكر عازف العود الجميل عبد الله النجم، والعازف الرائع أيضاً محمد العيسى. وصديقي ملحن أول الأغاني التي غنيتها في بداية الثورة “بكرا بمثل هلوقت” حارث مهيدي، عازف الناي محمد العبو، عازفة التشيلو الفرنسية كلوي ديكومت حيث نعزف معا الآن. عازف الجيتار أديب دركشلي. والقائمة طويلة لا أستطيع تعدادها بالكامل.
ـ لنرجع إلى البدايات إلى نهر الفرات والرقة، ماذا تخبرنا عن علاقتك بتلك البقعة الجغرافية؟
هذه البقعة الجغرافية هي تاريخي، ماضيَّ الذي دفعني إلى حاضري. لا أستطيع أن أنسى اللحظات الساحرة التي أمضيتها على ضفاف الفرات. قد لا يسعني الكلام عن ما أشعر به حيال هذه البقعة الرائعة دون أن أذرف دمعة، هذه البقعة ببساطة هي ….. موطني.
ـ ما أكثر شيء تشتاقه وتحن إليه في الرقة؟
أشتاق إلى الفرات، وهذا لا شك فيه أبداً. وأشتاق إلى جمعة الأصحاب والأقارب، وإلى ليالي الصيف الرقي التي تشفي العليل.
ـ ما الذي يمكن أن تفعله الموسيقى في ظل كل هذا الموت والدمار؟
الموسيقى تستطيع أن تفعل كما يفعل السلاح، طبعاً إذا أردتّها سلاحاً. والدليل على كلامي هذا هو الأثر الذي فعلته أغنية “يا حيف” في جميع السوريين وخاصة في بدايات الثورة السورية. هذه الأغنية التي أشعلت نيران لا تنطفئ، وكلنا شهدنا الأثر الذي أثارته هذه الأغنية.
فالموسيقى ببساطة هي سلاح نحارب به الدكتاتوريات كما نحارب بالبندقية، وقد تكون الموسيقى أكثر فعالية في بعض الأحيان، لأن البندقية لم تعد تستطيع الوقوف في وجه الأسلحة الحديثة، ولأنها أيضاً لغة العالم. وتتحدث لغة العالم الحضري التي يحترمها كل سكان الأرض.
ـ كلمة أخيرة تقولها؟
اشكركم وأشكر مجلتكم الجميلة على استضافتي هنا في ” قلم رصاص”، وأتمنى لكم دوام التقدّم والنجاح وإلى الأمام إن شاء الله.