الرئيسية » رصاص ناعم » باب الفرج / قصة قصيرة

باب الفرج / قصة قصيرة

استندت إلى الجدار بانتظار قدوم المحامي، قدماها تكادان تتجمدان من البرد، لسعة هواء باردة حرّكت القشعريرة التي تسللت إلى ظهرها. ألقت نظرة سريعة نحو بوابة القصر العدلي علّها تلمحه، لكنه لم يأت، تأخر.

فكرت بآظان الحمام الذي أشعلت كهرباؤه منذ يوم اعتقاله، فلا أحد يعرف متى سيطلقون سراحه، ومؤكد أن أول ما سيفعله حين يصل إلى البيت هو الاستحمام.

نظرت نحو ندوة القصر العدلي المفتوحة على العراء، المسقوفة بلوح من الاترنيت، المزدحمة بخلطة من أناس مختلفي الأشكال والألوان واللباس. نهض أحد الجالسين من مكانه مفسحاً كرسياً فارغاً قرب طاولة بلاستيكية يعلو سطحها دبق كؤوس الشاي الورقية المزدحمة عليه.

أسرعت خطواتها نحو الكرسي الفارغ وهي ما تزال تراقب بوابة القصر العدلي وتفكر بتأخره.

المنفضة مليئة بأكياس الشاي التي غرزت فيها أعقاب السجائر عمودياً، أشعلت سيجارتها وهي تنظر إلى قدمين عاريتين تتسعان بالكاد في الشحاط البلاستيكي، إلى أصابع متورمة وتقرحات حمراء على ساقي شاب في بيجامته الرياضية. يتحرك ذهاباً وإياباً وعيناه لا تفارقان بوابة القصر العدلي كعينيها.

نفضت رماد سيجارتها فوق أكياس الشاي الرطبة فالتصق بها. سمعت صوت المحامي يأتي من ورائها وليس من حيث انتظرته:   

– آسف على التأخير بس كنت عم احكي مع القاضي..

جلس قربها على حافة حوض الزرع الذابل وأشعل سيجارته أيضاً..

– يعني رح يحوّلوه لمحكمة الإرهاب متل ما قالوا مبارح؟

– لا تخافي، أنا حكيت مع القاضي، إنشالله بتنحلّ الأمور اليوم..

من بوابة القصر، تدخل مجموعة من النسوة المحتجبات بينهن امرأة مسنةّ تتحرك بالكاد، يندفع الشاب ذو القدمين المتورمتين نحوها ويبدأ بتقبيل يديها وقدميها، تحاول المرأة إنهاضه ولكنه يكاد يعانق ساقيها. النسوة يبكين، الشاب يبكي أيضاً.

*****

أدراج وممرات تقود إلى ممرات تتفرع عنها غرف، وممرات تقود إلى غرف القضاة والتحقيق، وأدراج تقود إلى أقبية الحجز أو تصعد إلى السماء. متاهة سهلة الحل كتلك التي في مجلات الأطفال ولكن قواعدها أكثر تعقيداً مما قد يظنه طفل ساذج.

تستند بظهرها إلى جدار مقشور على فسحة درج، تتمعّن في صورة علقت على جدار خلف قضبان حديد تفصل الفسحة عن بوابة الممرات.

يهمس في أذنها كي لا يسمعه الرجل الواقف قربهما، يسحب دخان سيجارته كمكنسة كهربائية:

– صار عند الطبيب الشرعي.. المهم بس ما يركب راسه.. ويعمل متل ما فهّمتو الصبح..

– بعدين بيفوت علقاضي؟

يومئ برأسه إيجاباً.

– عمار عنيد، ما رح يقبلها على حالو..

– لكن يتحول على محكمة الإرهاب؟

يختفي مجدداً في الممر خلف قضبان الحديد. تنظر إلى الرجل الذي فوجئت أصابعه بجمرة سيجارته، فتسقط منه أرضاً كجثة منهكة.

*****

 ما يزال الشاب محاطاً بالنسوة النائحات اللواتي يتحسسن أعضاء جسده بأيديهن الدافئة الحنونة. يقترب منهم عسكري يحمل “كيس” كمبيوتر ويسلمه للشاب ذي القدمين المتقرحتين فيوقع على أوراق الاستلام.

تحاول إحدى النسوة أخذ الـ “كيس” منه فلا تسمح له رجولته الغضّة بذلك. يمشي مترنحاً تحت ثقل الـ “كيس” محاطاً بالنسوة المحتجبات خروجاً من بوابة القصر.

*****

تحاول التلصص إلى الممر ما وراء القضبان، خلفها طقّات كعوب عالية، تلتفت. محاميتان شابتان متبرجتان تهبطان الأدراج تتهامسان ثم تضحكان وتتهامسان من جديد. على فسحة الدرج، ترمقها إحداهن بنظرة غريبة وتكمل سيرها نزولاً مطقطقة بكعبها الفيروزي، وحقيبة أوراقها القانونية وغير القانونية تتأرجح في إحدى يديها.

فكرت:

– أيبدو مظهري سيئاً إلى هذا الحد؟

عادت للتلصص إلى الممر ما وراء القضبان، لمحته آتياً من بعيد محصوراً بين عنصرين. رفّ قلبها حتى كاد يقفز من كنزتها القطنية راكضاً نحوه.

حين حاذاها لم تنظر في عينيه، بل إلى قدميه في الشحاط البلاستيكي، إلى أصابعه المتورمة وتقرحاته الحمراء على الساقين.

– حمد الله على سلامتو مدام..

فاجأها صوت المحامي وحينها فقط رفعت رأسها إليهم جميعاً، نقّلت عينيها بينهم، إلى أن استقرت على عينيه الغائمتين البعيدتين.

لم تتعرف على رائحته المألوفة حين عانقته ولكنه أبعدها سريعاً بيد خشنة واهنة. سألها وهم يهبطون الأدراج الطويلة:

– الحمّام سخن؟

– متل النار.

******

توقف عند مدخل البناء متعباً يعبّ هواء في رئتيه لثوان ثم قال بصوته المألوف ذي الرنة المتفائلة:

– يللا.. سنّدوني، بس ما تقربوا مني كتير.. على الأغلب جربت..

أسندته من إبطه، والمحامي من الجهة الأخرى، يميلون مع ميل خطواته سائرين نحو باب الفرج المزدحم بالداخلين والخارجين.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *