قصي عطية |
يأتيني وجهُكَ مُعفَّراً بالضَّوء، يسرجُ لي خيلاً من الأحلام، ويمدُّ لأحلامي جناحاً نحوَ النُّجومِ أو أبعد…
عكَّازُكَ أبي يشطر ذاكرتي نصفين؛ واحدةً تعتلي غيمة، وتمطرني حنيناً إليكَ، وأخرى تأخذ بيدي، وتطوفُ بي بينَ كروم الزَّيتون… هنا أشعلَ سيجارةً واتَّكأ… هنا مسحَ جبينه، وأخذ قيلولةً تحت ظلِّ الشَّجرة… وهناكَ ناداني مرَّة باسمي…
أمازلتَ تعرفني؟؟
أنا قصي يا أبي …!!
أناديكَ الآنَ، أجبْني إنْ كنتَ تسمعني… نادِني باسمي كما كنتَ دائماً … نادِني كي تزهرَ شجيراتُ اللوز في حقلنا، فمنذ غادرتَ كفَّت عن الإزهار، تسألني عنكَ…
أخبرتني بأنَّها غيرُ راغبةٍ في الحياة من بعدكَ، انهض… واحفرِ التّربةَ حول جذورها، تكادُ تختنقُ بعد أن تركتها…
ماذا أقولُ لها يا أبي؟؟ أشعر بالحرجِ منها، لا أجدُ جواباً لأسئلتها، … ضاعَ مني الجوابُ، ضاعَ مني البيانُ، وتاهتِ الفصاحةُ على لساني من بعدكَ..
هاكَ العكازَ يا أبي… استند عليه، وانهض…
تبكيكَ عتباتُ البيتِ، ومقبضُ البابِ يسألني عن لمسة أصابعكَ، ووسادتكَ تسألني: «أين أبوك»؟؟
ماذا عساني أقولُ لهم..؟؟
ما عدْتُ قادراً على التهرُّبِ منَ الجواب… ذاتَ مساءٍ نهرني بابُ البيتِ، ومنعتني العتباتُ من الدُّخولِ من دونكَ، شرقتُ بدمعتي، وأخبرتهم بأنَّكَ ستعودُ…
ستعودُ ورقةً خضراءَ على دالية العنب، حبَّة زيتونٍ على شجرة الزيتون، زهرة جلَّنارٍ حمراءَ، وزهرةَ ياسمينٍ بيضاءَ على نافذة البيت، ورفّاً من طيور النَّورسِ يحلِّقُ في تيهِ هذا المكان…
عدْ يا أبي… اشتقتُ أن أناديكَ: «أبي».
كم كنتُ أتغنَّى باسمكَ، وأترنَّم بحروفه، كم كنتُ أتباهى أمامَ أصدقائي، حين أغيب عن البيت، بأنّي ذاهبٌ لأرى أبي، فبماذا سأتباهى اليوم أمامهم؟!
تكلَّم يا أبي، … يتيمٌ أنا من بعد أن رحلتَ، طفلٌ أنا في الثلاثين… وسأظلُّ طفلاً في الأربعين والخمسين…
عقاربُ السَّاعة تجمَّدت على السَّاعة الثالثة إلا ربع فجراً، وأوراقُ «الرّوزنامة» تعودُ كلَّ صباحٍ إلى الثامن من شباط … توقَّف الزمانُ مذ توقَّفَ قلبُكَ عن الخفقان، وأجدبتِ اللحظاتُ مذ أغمضتَ عينيكَ.. وغادرتَ في صمتٍ رهيب…
اعذرني أبي لأني لم أحقق أمنيتكَ، كنتَ تريد أن ترى أبنائي قبل أن تموتَ، وكنتُ أقولُ مبتسماً: «بعدَ عمرٍ طويلٍ يا أبي»!!
اليومَ فقط تمنيتُ لو كنتُ أباً يا أبي، تجتاحني اليومَ رغبة جامحةٌ لاحتضان طفلٍ؛ يناديني: «أبي»، أن أجلسه على ركبتيَّ، وأشمَّ رائحته، أن أراه يحبو، ويلهج بكلمة «أبي»، آهٍ … كم هي جميلة هذه الكلمة…!!
أقلِّبُ في جوَّالي، أستعيدُ صوركَ واحدةً واحدة، من قال: «أبي مات»؟!! هاهو يضحكُ هنا، ها هو يحتضنني هنا، هاهو يصافحني هنا، هاأنذا أقبّل جبينه هنا…!!
ألا يمكنكَ أن تعودَ يا أبي؟!
ليسَ من الوفاءِ في شيءٍ أن تموتَ وأبقى أنا حيّاً…
قمْ أبي … قرّرتُ اليومَ أن أصيرَ أباً، سأحقق أمنيتك.. ألا تريدُ أن ترى أبنائي؟؟ أريدُ أن أصبحَ أباً يا أبي!!.
إلى روح أبي (8 شباط 2010)
شاعر سوري | مجلة قلم رصاص الثقافية