في أولى أعمالها الصّادرة عن دار التكوين ( 2019 )، تبدو الدكتورة هلا علي، الأستاذة في الفلسفة، كمن يضعُ على الطاولةِ نصّاً روائياً يهزّ كل ما يحيط بهِ من نصوص، بل ويدفعها للشكّ في ذاتها وإعادة تأهيل مضامينها.
“إيميسا” هو العنوان الذي اختارتهُ الكاتبة، والذي لا يخفى على أحد أنه اسمٌ لآلهة الشمس، والاسم اليونانيّ لمدينة حمص الواقعة في قلب سوريا، حيث تجري أحداث الرواية بين عامي 2012 و 2018، وصفت فيهِ الكاتبة شكل الحياة في مدينةٍ اقتات وحش الحرب على دماء أبنائها، وعرقلَ آمالهم، وشكَّلَ مصائرهم بمكر السّحرة، وخباثةِ الغجر السائحين، لذا يجد القارئ في هذا النص كل ما يمكن أن يعبّر عن الألم السوريّ من خطفٍ، وقتلٍ وهجر، يُتمٍ وخذلان وخيانة، لينتقل إلى طرفٍ آخر لم تستطع الحرب قتلهُ، وهو وجهُ الحب والوفاء، الوجهُ الآخر لحياةٍ مازالت ممكنةً على أرضٍ لم تعرف الهزيمة يوماً، ولو اجتمع العالم كله على تثبيتها بكرسيّ مدولب ودفعها لمهاوٍ سحيقةٍ.
عن الرواية :
تبدو الكاتبة مثل لاعب الخفة الذي يتراقص على حبل الزمن بمهارةٍ ، وهي الثيمة الظاهرة في النص، حيث تهرب إلى أحداث الماضي في نكوصٍ لا بدّ منه، وتعود لتفرض الحاضرَ بقوة عاصفةٍ شتائيةٍ، لتتحرك خيوط الأحداث خلف الستارة، كمثل راوٍ محترفٍ يمنحُ القارئَ صوتهُ، وفكرهُ، وصورهُ الواعية الثابتة عن الواقع الذي يتكَشّفُ شيئاً فشيئاً على الملء، تاركاً صوتهٌ مثل موسيقا خلفية رنانة.
لعبة الزمن، تشبكُ الأحداث بمهارةٍ ذكرتنا بمهارة الروائيين القدماء، فنجد النصّ يذهب تارةً لينضوي تحت محور الواقعية السحرية، ليعودَ أخرى ويتسلل إلى نصوص كوميديا الحروب السوداء، إلا أن الثابت الذي لا يخفى، هو السردُ القريب من أساليب كتابة الروايات الكلاسيكية التي سادت خلال القرن الفائت، من مثل ما كتبهُ إميل زولا، وفلوبير وغيره من ذلك النمط الذي عدّهُ النقّاد أعرق النماذج الروائية وأكثرها ثراءً.
شخوص الرواية :
اللافت في رواية “إيميسا” أنها من النصوص التي لا ترجّح دور البطولة لأيّ من شخصياتها، بل تفرد ساحتها للجميع، فلا تطغى شخصية على أخرى، ليحارَ القارئ أيّها الأشدّ تأثيراً، حتى ينصهر الكلّ في بوتقة نصّ روائيّ متكامل منسجمٍ أيما انسجام.
فهل كان البطل واحداً من مجموعة العسكريين المنتمين للجيش السوريّ الذي يحارب إرهابيي جيش النصرة والمتطرفين الدينيين على كافة الجبهات؟ هل كان “ماهر” العاشق الذي تدفعه عقدة الذنب تجاه “أحمد” الذي يستشهد بدلاً عنه فيضطر لترك حبيبته “سلاف” والتقدم لزوجة صديقه حفاظا على مصير أحمد الوليد اليتيم؟ أم أنهُ “آكري” العسكري الكردي الذي يؤمن بأن الحل في تقسيم سوريا؟
هل كان “جوان” أم “ثائر” العاشق المخذول من خيانة حبيبته “لينا” والذي يقض موتها مضجع مصيره في النهاية؟
إلى العنصر النسائيّ، والذي يظهر العنصر الأشدّ تأثيراً، والمحرك الأكبر لأحداث الرواية كما عبرت الكاتبة بقولها :
“للنساء قدرةٌ هائلةٌ على النسيان، وطاقةٌ رهيبةٌ على النهوض من الحرب والأزمات” لتبدو المرأة السورية، عشتاريةً مقاومةً، آلهةً للحب والحرب، تسقط وتنهض وتقف من جديد بعد كل عثرة، ليكون النّفَس النسائي المقاوم عنواناً عريضاً لكل الشخصيات النسوية في النص.
من “سلاف” الخياطة الحسناء التي عانت عقدة ترك الدراسة حتى شهرتها في عملها ونهوضها من خذلان “ماهر” لحبها، إلى “أم ماهر” والدة “سلام” المخطوف، والذي تعيش أمل عودته حتى النهاية إلى “أم جميل” المحررة من خطفِ المجموعات الإرهابية في ضاحية عدرا العمالية، لتعود وتعاني نظرات الاتهام بعيون زوج ومجتمعٍ لا يرحم، وتحارب بشكلٍ عبثيّ موروثات مجتمعية بالية هدّتْ كاهلها وحملتها مسؤولية مصيرها الذي لم تبرأ من خزيهِ وعاره، العار ذاته الذي عانتهُ “أم هشام” التي تعرضت للاغتصاب خلال أحداث الثمانينات، إلى “حياة” الأكاديمية الأرملة و”سهر” زوجة الشهيد، و”سماح” العاشقة التي تتنقل بين حمص ودمشق تحت نير القذائف والهجمات بهدف الدراسة وإكمال شهادتها الجامعية.
الشخصية اللافتة في الرواية، هي شخصية “وليد” حبيب سماح، الأكاديميّ الذي أَطّرتهُ الحرب وحولته الظروف من مفكّر إلى إرهابيّ، ومن ناطقٍ بالعدالة الإنسانية إلى محرض طائفي، ومن شاعرٍ وكاتبٍ إلى قاتل !
ختام الرواية :
“الجميع جلّاد .. الجميع ضحايا..والاقتتال هو المصير “
بهذي العبارة، تُخرج الكاتبة نصها من دوامة العبثية، وتُحمّل وزرَ الحرب للجميع، الخائن لخيانتهِ، والمخذول لضعفهِ، والمقتول بنير المجتمع لخفة وجوده التي لم تُحتمل، ليكون الاقتتال مصيرٌ لتعصبٍ تافه مريض، مردّهُ الصورة الخاطئة التي نشأ عليها المجتمع وخرج منها يعرج بساقٍ متورمةٍ خبيثة لن يبرأ الجميع من ألمها سوى بالبتر والنهوض مجدداً من حربٍ عرّت النفوس، وكشفت الكل، وبقي الوطن ينظر للجميع من بعيد، مثلِ خاسر وحيد ينعي عقوق أبنائه، دون أن تغفل الكاتبة في النهاية أن تفرد مساحةً للأمل، عبر الحب وكظم الجرح والنهوض نحو المستقبل مجدداً، كما الاسم الذي اختارته كمثل آلهة الشمس التي لم يغيبها القدر يوماً.
عن الكاتبة :
هلا أحمد علي، كاتبة وروائية سوريّة، مواليد دمشق، تخرجت في جامعة دمشق / قسم الفلسفة عام 2000، حصلت على دبلوم الدراسات العليا بالفلسفة من جامعة دمشق عام 2001، وحصلت على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فريدرك ألكسندر إيرلانغن نورنبرغ \ جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 2009، تعمل أستاذ مساعد وعضو هيئة تدريسية في قسم الفلسفة في جامعة تشرين.