لا أستطيعُ احتمالَ منظرِ الشّرفاتِ المتقابلةِ من دون سكانها، فراغُها يتسلَّلُ إلى قهوتي الصَّباحيَّةِ فينفخَ في قوامِها رغواتٍ متسلسلةٍ لا تقتصرُ على وجه سطحِها فقط.
أُنهي قهوتي الفقاعيّة والفضولُ هو كلُّ ما يسري في عروقي، أين هنَّ جاراتي الثّرثارات؟ لماذا لم تخرجْ إحداهنّ لتستقبلَ الصّباحَ مثلي على شرفتها؟
هل عدمْنَ جميعهنّ أسباب الخروجِ؟ نشرُ غسيلٍ مثلاً أو تناولُ غرضٍ ما من خزانةٍ ما تفيضُ بالخردواتِ وبكلِّ ما لا يلزم وُضِّبَ فيها تحت مُسمّى: “قد يلزم يوماً ما”، وحتى تلك الجارة العارية –أقصدُ التي ترتدي بضعَ خرقٍ باهظةِ الثمن- لم تخرج لتدّعي أنها تجلبُ شيئاً ما ثم تبدأ بالصّياح بكلّ ما حباها الله من مقدرةٍ على إرخاء حبالها الصّوتيّة المشدودة:
“سيزووو..سيزو.. بس بقا”
سيأتي يومٌ وأخفي فيهِ نباحَه خنقاً بخرَقِ مالكتهِ التي تُباهي به من أجل لفتِ انتباه ذلك المستأجر المثير العاري أيضاً، عسى أن تنجحَ صنارتُها الأربعينيّة “السيليكونيّة” في التقاطِ عضلةٍ من عضلاتِ معدتهِ التي وصلَ فيضانُ نضارةِ تقسيماتها إلى مضاربِ خمسينيةٍ مخلصةٍ مثلي.
أنا خمسينيّةٌ مخلصةٌ ليس فقط لزوجِها وابنتها الوحيدةِ، وإنما لكلّ ما ينفلتُ من هذه النوافذِ والشرفاتِ من تفاصيلِ حكاياتٍ أبرعُ في استمالةِ صاحباتِها –بكلّ إخلاصٍ أيضاً- كي يُكمِلنَ نسجَها أمامي، وإلّا سأموتُ “فَقعاً” إن لم أعلمْ خواتيمَها.
“أم بيرو”..”ربا”..
أُنادي عليهما وأنا أتلفّتُ برأسي المُدلّى، لكن لا تستجيبُ أيٌّ منهما، لمن سأقصُّ ما حدث معي البارحة؟
لقد ذهبتُ مع “لولو” ابنتي إلى السوقِ فعرسُ أختِ زوجي على الأبوابِ وما زلنا محتارتَين بشأنِ ما سنرتديهِ، وخاصّة أنا فالموديلاتُ تخدمُ الفتياتِ الصغيراتِ، ولا يُعقلُ أن أرتديَها رغم رغبتي الشديدةِ في ارتداءِ فستان بموديل “باربي”…ساعدني يا رب كي أحققَ رغبتي من خلالِ “لولو”، كم يليقُ بجسدها الفارعِ الممشوقِ الذي لا يعلمُ أنه فارعٌ ممشوقٌ ويسارعُ خجلاً إلى مداراةِ فتوّتهِ بموديلاتٍ ساحقةٍ في القِدمِ!
صحيح…الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ، لا بدّ أن أُخبرَ “أم بيرو” عن تلك التنورةِ الفضفاضةِ التي تليقُ بحجمِ ما تملكهُ، لا بدّ أن تتخلّى عن حُمقها وترتديَ مثلها وإلا سيزدادُ عددُ ضحايا الأذى البصريّ لِما تفعلُهُ بحقِّ كيلوغراماتِها الخلفيّةِ المُختنقةِ في السراويلِ ذات الخيطانِ المحتَضَرة.
كيفَ لـ”ربا” أن تتأخرَ في نشرِ غسيلِها؟! أقسمُ أنّ المياهَ عادت إلى مجاريها بينها وبين زوجِها، آآآآخ…لقد تأخرنا في السوقِ، الذنبُ ذنبُكِ يا “بهيّة الحيّة”، لكنتُ تأكدتُ من ذلكَ بنفسي، وأيّةُ وسيلةٍ إعلاميّة أصدقُ من الشرفاتِ المتجاورةِ! إذ كلُّ ما يلزمُ لتغطيةِ الخبر وقتَ وقوعهِ هو أذنٌ خمسينيّةٌ بعُظيماتِ سمعٍ عشرينيّةٍ، وبالتأكيد الحضورُ وقتَ الحدثِ، قد تتساءلونَ أيُّ سوقٍ تظلُّ أبوابهُ مشرّعةٌ حتى وقت وقوعِ حدثٍ من الجليِّ أنّه لا يُبثُّ مباشراً إلا بعد منتصفِ الليلِ؟
حسناً..حسناً، إنه الرابطُ العجيبُ –كما تقولُ لولو تيمّناً بأحد مسلسلات طفولتها ربما- الرابطُ العجيبُ الذي سببُه تلك الأفعى بالتأكيدِ هو كما يأتي:
أختُ زوجي “بهيّة الحيّة” ستتزوج؛ أي إنها ستقيمُ مهرجاناً على هيئةِ عرسٍ، وهذا يعني أنه يجبُ أن نكون “عروساتٍ” أكثر منها؛ أي إنه من البديهيِّ أننا سنقلبُ السوقَ رأساً على عقبٍ، وهذا كلّه سينتهي بي إلى عودتي وأنا ألفظُ أنفاسي الأخيرةِ من شدّة الإعياءِ، فكيفَ لي أن أسهرَ حتى بعد منتصفِ الليلِ كي أتأكدَ بأمّ عيني –عفواً..بأمِّ أذني- من خميسِ “ربا” الملتهبِ؟
اففففف…يا لهذا الصباح المملّ! لم تظهر أيّةُ واحدةٍ حتى الآن، ما حالةُ الكسلِ هذه التي تجتاحُ هؤلاء النساء الحمقاوات؟ قلتقمْن وتستفِدنَ من يومِ العطلةِ في إنهاءِ أعمال المنزلِ، وجدتُها!!! يبدو أنّ دلواً من الماءِ بحجّة التنظيف المعتادةِ سيكونُ كفيلاً لإيقاظكنّ.
“أمّ بيرو” تخرجُ إلى شرفتها -ببنطالٍ يستغيثُ كالعادة- وتقومُ بنشرِ الغسيلِ، أيّ نوعٍ من الفيروساتِ أصابَ عقلَها؟! لمَ لم ترمِ عليّ تحية الصباحِ؟! لمَ لا تحدّثُني؟! كيف تجرؤ على تجاهلي هكذا؟!
السيدة العجوز في باحة دارها الخلفيةِ تحت شرفتي تجرُّ ساقَيها كالسّلحفاةِ، ومع كلّ “جرّة” تولولُ وتصرخُ بسبب آلامِ مفاصلها، كم يوجعُني قلبي حزناً لِما تكابدُهُ من آلام لمجرّدِ أنّها تمشي فحسب! أشعرُ بالسعادةِ وأنا أدعو لها بالشفاء وبتذكيرِها بأنّها بركةُ هذين البناءينِ المُتقابلين فتردَّ لي الدعوة عشراً، اليوم أنا بحاجةٍ إلى دعواتِها الريفيّةِ الخاليةِ من أيّ تلوّثٍ مدنيٍّ، أنا بحاجةٍ إلى بركةٍ ما تفكُّ سحرَ هذا اليومِ الغريبِ، ولكن ما هذا؟!!!
كلماتي لا تنزلُ إلى مسامعِها، أرفعُ نبرةَ صوتي فلربّما هي لا تستطيعُ سماعي لكنّ صوتي بُحَّ حتى صار يشبهُ صوتَ الحيّة بهيّة، أيُّ يومٍ ملعونٍ هذا؟!!
ذكرتُ منذ قليلٍ دلوَ الماء، لطالما كانَ وسيلةَ انتقامي من إحدى الجاراتِ إذا ما حلَّت عليها لعنةُ غضبي، والحجّةُ جاهزةٌ دائماً: الغبارُ أكلَ الحديدَ والرُّخام ولابدّ من أن تظلَّ أيدينا مواظبةً على خراطيمِ المياهِ ودِلائها، واليومَ أنا غاضبةٌ جدّاً جدّاً.
ما هذا؟!! من المُفترضِ أن ترتفِعَ باحةُ “أمّ أحمد” لعدّة أمتار بسبب كميةِ المياه التي سكبتُها، لكنْ…كيفَ سأشرحُ لكم؟ وكأنّ هناكَ شمساً حارقةً بين شرفتي والباحة تحتَها تبخّرُ المياه فلا تصل مطلقاً إلى الأرضِ، لا أدري كيف قُسِّمت الحظوظ بين البشرِ، هذه المرأة حظُّها بتلابيبها، وها هو ذا اليوم ينقذُها من بديهيّات ِالطبيعةِ وقوانينها، اللهمّ ارزقني ربعَه فقط لا غير.
أتلفّتُ كي أدخلَ ولساني يحوكُ تشكيلةً متنوعةً من الشتائمِ واللّعناتِ على أهلِ البناءِ وعلى السّاعةِ المشؤومةِ التي سكنتُ فيها في هذا البناء، ظلّ لساني يجتهدُ في الحياكةِ بسرعةٍ قياسيّةٍ خلال ثوانٍ لأُدركَ بعدَها أنه لا انعكاسَ لي على زجاجِ باب الشّرفةِ.
***
كيفَ استطعتِ يا ذات العينينِ اللّوزيّتين والساقين الممدودتينِ الجميلتينِ أن تفعلي هذا بي؟ وأنا التي كنتُ أستمتعُ بالنظر إليكِ وأنتِ تدرسينَ على شرفتِك وقد بسطتِ أوراقكِ على ساقيكِ الممدودتين على طاولةٍ صغيرة، إذن..ما كان بين يديكِ لم يكن محاضراتٍ ودروساً، وإنما كان أوراقاً لتشحذي عليه أدوات قتلكِ.
ألهذهِ الدرجةِ تزعجُكِ محادثاتي مع الجاراتِ حتى تجعلي مني شبحاً في قصّتكِ؟! بياضُ بشرتكِ لا يوحي أبداً بسوادِ قلبكِ وبحقدكِ، لقد ذكرتِ “لولو” في قصتكِ، إذن أنت تعلمينَ مدى تعلُّقي بوحيدتي فإلى من تركتِها بعد موتي؟!
قولي ما يزعجُكِ، هل أكل القطُّ لسانَكِ يا قطّة حتى لا تطلبي إليّ بكلّ أدبٍ أن أُخفِضَ صوتي، لمَ كلّ هذه الوحشيّة والدمويّة؟
أتعلمين؟ لن أترفّقَ بوجهكِ الطّفوليّ وسترينَ ما الذي ستفعلُه “صباح” بك، أنا أيضاً ماهرة في تأليف القصص وغداً سأنشرُ أول قصّةٍ، لنرَ كيف ستصمدينَ أمام “دار صباح للنشرِ والتوزيع” وخاصّة حينَ أُعمِلُ خيالي الخِصب فأجعلَكِ بطلةَ أولى شائعاتي –أقصدُ أولى قصصي- يشاركك في البطولةِ:
المستأجرُ المثير العاري….
مجلة قلم رصاص الثقافية