هل يُعقل أن نُحبَّ أحداً دون أن نراه ؟
ليسَ السؤال الحقيقيّ هكذا، بل ما كانَ يناسبُ حالتَها سؤالٌ ملحاحٌ، يكادُ يصف فحوى القصة باستفهام فريدٍ وحيدٍ مفاده؛ هل يُعقل أن نحبّ أحداً من خلال ما يكتب؟
“بالطبع.. أجل”.
هذا ما ستصرخ به “نجميَّة”، بكلِّ ما تحت السَّحاب من علوٍّ، وبكلّ ما يستبيحُ وجهها من رِقةٍ، بعد أن كادت روحها تصل عنان السّماء، وتتوحّد بأعلى نجمةٍ فيها.
أخيراً عاد إلى البلاد !
كانت تتابع خبر عودته في الصحيفة بلهفةٍ، وعيناها تقضمان الحروف بجوع متسولٍ. والدتها تصرخ في الخارج. تقف أمام التنور الملتهب؛ تخبز خبز الصباح:
“يا نجميّة .. تعالي يمّا، وأَخرِجي الدّابة من الإسطبل. إنها تصرخ جوعاً وضجراَ”.
“نجميّة” غارقة في الحلم، بعد أن أكملَت غرقها المشتهى في كتب الروائيّ الشهير “جمال الخضراوي”، والّذي كان قد هاجر خارج البلاد لفترة طويلة، وعادَها اليوم.
الكاتب الريفيّ الذي خرج شابّاً من قريتها الساحلية الغافية على كتف جبال اللاذقية الغربيّة، أغرقَ العالم وعقول الشباب بكتبه وأفكاره ورواياته. طوّق النجاح بيديه، فصار الأشهر في زمانه وعصره.
لم تكن لتنسى ذلك اليوم الممطر !
كانت تغضُّ في طريق العودة إلى قريتها. استوقفها عرضٌ تجاريّ معلنٌ على لوحةٍ كبيرةٍ ضخمة. كان كل شيء في تلك المدينة يُرهبها. كل شيء فيها ضخمٌ ومبهر. على عكس الأشياء في قريتها، حيث كل ما فيها يشِي بالوداعة والحنان.
تضّمّنَ العرضُ الأعمال الكاملة للكاتب الشهير، وكان مغرياً بقدر ما كان السير بمحاذاة نهر قريتها الكبير يُغريها. لكنها لم تكن يومها تملك أكثر من أجرة العودة بالحافلة، وثمن كيس خميرة الخَبز الذي أوصتْها والدتها بدفع ثمنه لبائع الجملة.
كانت في ذلك الوقت تعاني الوحدة. تعيش غربةً بين صديقاتها الأنيقات – فتيات المدينة – اللواتي كانت كلمة “باريسيات” تليق بأشكالهِنّ أكثر.
معهنَّ، كان ينتابها شعور مزعجٌ، مثلَ شعور التلميذ الجديد الذي وفدَ إلى مدرسةٍ غريبةٍ للتو. أيديهنّ الناعمة، وخدودهنّ اللماعة أبداً أَشعَرَتْهَا كما لو أنّها قادمة من كوكب آخر، لذا كانت تستعجل إنهاءَ محاضراتها، لترمي نفسها في أول حافلة، وتعود للغرق بين كتبها، وحقول قريتها.
لم تستطع احتمال العرض. اشترت الكتب، وبعدها أعانها الله على ما فعلتهُ بها والدتها. أجبرتها على توريق وريقات الدخان -التبغ- ومكثتْ حتى المساء، وهي تُنسقها بحبل طويل ومسلّةٍ أطول. فبدَت يداها كما لو أنهما يديّ امرأة أربعينية ممهورةً بلُصاقةٍ مكتوبٌ على جبينها “امرأة ريفية”.
كانتا مخشوشنتان بشكل مريع، لكنها تنسى ذلك كله عصراً، بعد أن تُنهي الخَبْز والتوريق، وتصنع طبق اليقطين المفضل لوالدها مع حرصها على إخراج البقرة والدابة دون أن تغفل عن إطعام الدجاج والمعزة الشهباء.
بعدها كانت تفرغُ لعالمِها الأرحب. تحضن كتاباً لهُ، وتخرجُ من بين بيادر الرمل والقمح. تسمع هسيسهُ خلفها، فتبتسمُ في سرّها. تتقصّدُ التغافل والسّهو، وتخفُّ في مِشيتها وتتمايل عمداً. يُربّتُ على كتفها، فتنظرُ إلى الوراء وتبتسم. تغرسُ يديها في مائه العذب وتثملْ، فيتبعُها بوَلَهِ عاشقٍ ماجنٍ؛ نهرُ قريتها الشماليّ الكبير.
على الضفة المقابلة أمّها تغسل ثياب إخوتها، ووالدها يجرّ بقرتهم الوحيدة.
“نجميّة” تتفيّأ تحت ظل شجرة الزلنزخت، وتحلم خلف السطور بالحلم.
دخل حياتها بلا استئذان. في كلّ كتابٍ وَكلّ روايةٍ كان يتغنّى بالوطن والأرض، بالقرية والحبيبة الريفية الغافية إلى جنب النهر . باللغة المسفوحة على أبجديات الغرب، وبالأرض المغتصَبة والحق المسلوب.
كان يُعرّي العدوّ، ويشتم الخائن. يصوّر المجتمعات المخملية بعباراتٍ من الخيش والصّبير. يصف قريتهُ بأنها الجنة الأولى، ويزعم أن سكانها جُبلوا من تربة القمر. كانت تشهقُ خلف عباراته. تتسلقُ الكلمات، فتصلُ إلى وجهه الذي لا يفارقُ قلبها. تتهدّم الحواجز، وتتكسّر أحجار الطوب بينهما، فتشعُر أنها منهُ؛ من دمهِ من قلمهِ من محبرتهِ.
دون أن يعلم، كان يمدّها بالعزم على تحمّل عالم المدينة الصاخب، فقد كانت الضخامة تُرعبها، وكانت المدينة تُشعِرها بضآلتها. هناك بين حنايا “عين الكروم” تشعرُ بأنها آلهة، وبين كتبه تُحسُّ بعراقة الأصل ورفاعة النسب، أما وسط الصخب المتوّج بالضجيج كانت تُصاب بالذعر !
أهل المدينة سايكوباتيون وربما انفصاميّون، يعشقون الطبيعة، يلوذون بالجِبال في عطل نهاية الأسابيع ويحتلّون الغابات في الأعياد، لكن، إذا ما حدث وَتمرَّدت شجرةٌ مَا على الحداثة والتكنولوجيا أمام منزل أحدهم، كانوا يقطعونها بحجّة أنها تحجب السماء، بينما كان النخيلُ الشامخُ أمام منزلها في القرية حرّاً يكادُ يُلامس السماء.
أما عن الذّعر الذي أصابها جرّاء صديقاتها “الباريسيات”، فقد تمكّنت بفضل رواياتهِ وَتفصيلِ آرائهِ من التغلب عليه في عامها الجامعي الأول. لا زالت ذاكرتها تعبق بصورتها المشينة أمامهن في ممرات الكلية، لم تدرِ معنى الغمزات واللمزات، جلّ ما فعلته يومها أنها كانت تعاني عطشاً لا حلّ له، فاشترت لنفسها مشروباً بزجاجة خضراء كُتب “للطاقة”، لم تدرك منها معناها سوى أنها تقضي على عطشها الذي يبّس حلقها.
لاحقاً، وهي تقرأ إحدى رواياته، علمت حقيقة ما تناولته، وأدركت حُمقها وقلة خبرتها وسبب استهزائهنَ بها، فهي بين جدران قريتها النائية لم تعلم عن الجنس شيئاً، ما خلا يوم استفاقت القرية على صراخ “ليلى” جارتهم بعد ليلة زفافها الأولى، ممتعضةً غاضبة مفشيةً سرّ عريسها “محجوب” لإصابتهِ بما أسموهُ ضعفاً جنسياً ! يومها راح أهل القرية يتوافدون إليهم مُحمَّلين بسلال الجرجير والعسل الملكي والسمك البحري الطازج.
بينما كانت تستذكر عباراته التي تصفهنّ بالخيش والصّبير، تبتسم في سرّها. استطاعت بمرونتها العفوية أن تتمازج وإياهنّ بسرعة عجيبةٍ أصابتهنّ بالذهول، وقد بُهِتْنَ بعدما علمنَ أنها كانت قادرة على التحدث مثلهنّ، ولا تفعل. وبُهِتْنَ أكثر بعدما حازت على الترتيب الأول في فصلها الدراسي الأول. كُنَّ يطلبْنَ العصير بطريقة القطط البيضاء المدللة. ينطقونها بنعومة تكاد تُقارب النشاز :
“عصير فريش بليز”. بينما كان الناس في قريتها يقولون: عصير لذيذ أو عصير طازج لو سمحت، أو شيئاً من هذا القبيل. وحتى حين يريدون تأكيد كلامهم كانوا يقولون ، نعم أو أجل. أما تأكيدُ صديقاتها المُتغنِّجات فكان على الدوام بكلمة “أوكي”.
كانت تعلم المعاني جيداً، لكنّ عقلها لم يُدرك السبب الذي كان يدفعهُنَّ للتحدث بصورةٍ ليسوا عليها؛ بصورة الآخر. ربما كان التحدث بلغة الأوربيين الرقيقة يُخفِي عُريّاً تسترهُ الألفاظ الغربية الطنانة !
هكذا فَسَّرتْ أفعالهنّ وَغفَرَتْهَا وهي تتذكر الخيش والصُّبّير وتبتسم، مثلما غَفَرتْ لوالدتها المأخوذة أيضاً بلغة الغرب؛ فهي لم تُصدّق أذنيها عندما استيقظت ابنتها ذات صباح، وعانقتها من الخلف حتى كادت تهوي في حمأة التنور، وهمست : “غود مورنينغ ماما”.
يومها كادت الأم تحرق أصابعها، ووزعت مربى الباذنجان على بيوت القرية، وأخبرت نِسوَتها أن ابنتها أذكى فتاة في القرية، وتتحدث لغة أخرى، وبأنها ستُصبح طبيبة !
***
دخلت كلية الطب، وتحت أشجار الجُمّيز كانت تتمدد على أعشاب الخُبّيزة والهندباء، حيث تعودت أن تغفو بين الصفحة والصفحة. كانت تضع الكتاب على وجهها، وتطرب لسيمفونيات الزقزقة وحفيف الأشجار والنهر جالسٌ عند قدميها مثل ماردٍ خادم كبير؛ يبتهل لمليكته الجليلة.
أن تقابله، كان ذلك يعني بالنسبة لها المستحيل، فالبُعد والاغتراب يجعلان من الحلم بلقائهِ صدفةً غير قابلةٍ للحدوث. أما وبعد أن عاد إلى العاصمة، أصبح كل حلم ممكناً.
سيستقبله المئات، وستكون على رأس الحاضرين. ستُخبره بالنهر والصفصافة، وستحكي له عن غربتها مع صديقاتها، وقصصهِ التي أنقذت براءتها من بين براثنِهِنَّ البراقة. ستحملُ إليه كلّ أشيائها في القرية؛ الطريق، ورائحة الخبز واليقطين، وكَفَّي والدها المُشرعتين للسماء بالشكر عن الجدار الذي تهدّم بينهما من الرواية الأولى. وعن أصابعها التي صارت تدهنها بالطلاء أسوة بهنّ. عن طرق التزيين الحديثة التي ما كانت تطيقها، وعن طرق الأكل التي كانوا يسمونها حضارية؛ كتناول تفاحة بالشوكة بهبلٍ مستطرد. كانت ترى ذلك هبلاً، فالتفاح في قريتها لا يؤكل إلاّ قضماً ونهشاً.
ستُخبرهُ عن اسمها القرويّ الذي كان مدعاةَ سخرية ومَضْحَكَةً لصديقاتها المتّشحات بأرق الأسماء، وأشدِّها تماشياً مع الموضة (سيرينا، جويل، روزالين). ذلك الاسم الذي يصيح بهوية صاحبته الريفية الجبلية البسيطة، وعن كونها صارت تفتخر به، وتعتزّ بعدما صار اسم “نجميّة” شخصية هامة في إحدى رواياته.
ببساطةٍ؛ كانت تراهُ قمراً عالياً؛ منارةً تستمدّ زيتها من زيتون القرية، ونجماً ثاقباً يجمع ذرات نوره من تربتها وسمائها.
***
العاصمةُ مرعبةٌ !
وصدرُ “نجميّة” يصعد ويهبط. الهواء خانق، لكن ذلك لم يلبثْ أن زالَ بعدما صارت تتخيل لقاءها به. كثيراتٌ تجمّعْنَ في بهو الفندق الذي نزل فيه الكاتب الكبير. وهي تحاول وسط الاكتظاظ أن تشقّ طريقاً لها بصعوبة. استطاعت أن تصل السلالم، وتهرول إليه بفستانها القرويّ الطويل، وسُحنتها العذراء التي تجعلها تبدو كغابةٍ لم تمسسها يدُ الحداثة بعدْ.
لم يكن هناك من داعٍ أن تبحثَ عن غرفتهِ، فالزحمةُ الخانقة في آخر الرواق تُنبِئ عن صاحبها. كان الشبانُ والشابات يتجمّعون بلهفةٍ وشوقٍ، والابتسامات الغارقة في الذهول والدهشة ترتسمُ على وجوههم وتَجمُد. حاولتْ بصعوبةٍ أن تحتال وتزجّ نفسها بينهم. وراقبت كيف كانت الفتيات مطلياتٌ كعرائس العيد. يُزيّنَّ وجوههنّ باللوز والسكر، وأما الشباب فكان البعض منهم يتأبّط نصاً، وآخرون بدا من مظهرهم أنهم مخرجون ومنتجون.
كان الضجر والسّأم باديان على الوجوه، بعد أن زاد الانتظار عن ساعاته الأربع. ساختْ الألوان على وجوه “الباريسيات”، وتورّمت أصابع أقدامهنّ المحشورة في أحذية الكعوب العالية. “نجميّة” تقف بينهم مثل نرجسة بين دغلٍ من الأزهار المتوحشة ونباتات الزينة المتسلّقة. لم ترغب حتى في خلق حديث وإياهنّ يُخفف عنها وطأة الانتظار، ومَثْقلة الوقوف.
وأطلّ قمراً !
لاح الروائيّ المعبود، وانهمر الجميع نحوه كالجراد بين من يُصّور ومن يقنص الفرص، وبين من يوقع تذكاره المذهَّب ومن يحتضنه في جنون هستيري.
كانت تقفُ متنحيةً تنتظر دورها، لتوقّع نسختها من آخر رواياتهِ، وَمن الواضح أنه غارقٌ بملامح الإرهاق والتعب، وكانت لاحات السّكَر بائنةً على وجهه. ياقَتُه مفكوكةٌ بشكلٍ عبثيٍّ. وعيناه متوقّدتان محمرّتان، أما وجهه، فأحمرٌ عابق منتفخ، لا يشبه نفسه كما كانت تراه في التلفاز .
وبين غمائم المعجبين، وفي لحظةٍ من غفلة انزاح الباب من خلفه قليلاً. تقافز فضول “نجميّة”، وتطاولت بعينيها نحو الداخل، فلمحتْ صبيةً شقراء تعرفها جيداً، بل و يعرفها الجميع. كانت تلك الممثلة الشهيرة في (النايت كلوب) التي تقوم بأداء أدوار الإغراء في المسلسلات والأغاني. كانت شبه عارية لا يستر جسدها إلا فستانٌ خفيفٌ شفيف.
لم تعلم لما شعرت بالتقزز حين قرنت بين سَكَرات الروائي وعُريّها الفاضح. تنبّهت إلى صوت الكاتب الأجشِّ وهو يضحك بشكلٍ مفاجئ، بعد أن هاجمته معجبةٌ متيّمة بأثداء شبه مكشوفة؛ كانت تهتزُّ وترتجُّ كلما صدرت عنها أدنى حركة. قبّلته أمام الجميع. فضحك بغلوٍّ وتكلّفٍ، وقال : “عليك أن تدفعي غرامةَ فعلتكِ هذه..!”
كانت نصف كلماته باللغة الأوروبية التي كان يهجوها، ويقرض الكلام ويدمغه بعبارات “nice to meet you” أو “welcome”.
شعرت “نجمية” أن هناك أحجاراً من الطوب تتسابق لترتفع بينها وبينه. دهمها بعض الضيق، إلا أنها أغمضت عينها عنه، وراحت تحاول أن تتمثّل في ذهنها وبأقصى حدةٍ ممكنةٍ مشاعرها السابقة حياله، تستيعدها وتتقوى بها، دفعت أحجار الطوب جانباً، وحان دورها، فاستشعرت في داخلها رعشة وارتجافاً.
مدّت يدها إليه، فقال “أهلا .. الاسم ؟” وسلّم بيده عليها.
ـ “نجمية”
ـ “يداكِ خشنتان يا نجمية بالنسبة لصبية في عمرك”.
احمرّ وجهها، وشعرت بالدم يصعد إلى جبينها حين سمعت قهقهة انسلّت إليها بخلسةٍ.
ـ “أعيش في القرية، أنت تعلم معنى ذلك”.
ـ “بالطبع، لكن هذا لا يعني أن تبقى يداكِ على هذا الصورة”.
شعرت أنها فقدت السيطرة، وأن هناك جداراً عالياً غير قابل للنزوح ارتفع بينهما. أنزلتْ يدها التي كانت تُخبِّئ فيها أشياءها؛ النهر والصفصافة وتلة النارنج، ووضعتها في جيبها.
كتب لها الإهداء على نسختها في عُجالةٍ، حين باغتهُ شابّ وسأله عن رأيه في الحرب الأهلية التي تعيشها البلاد، إلا أنه تهرّب من الإجابة وعلّل ذلك بأنه لا يحب التطرق إلى الأوضاع السياسية.
من كان يصدح بالحرية وكسر القيود والتحرر ؟ اتَضح أنه يحاول أن يحافظ على مواضع قدميه. قدمٌ هنا، وقدمٌ هناك. خائفٌ وَجِلٌ ينتظر ليرى إلى أين ستميل كفة الميزان، لينتقل بقدمه نحو النقلة الثانية.
باغتته “نجمية”، وقالت : “آتيتك من عين الكروم”.
امتقع لون وجهه، واحمرَّ، وأشعَرها أنها تفوَّهت بشيء ما كان عليها أن تذكره، وكأنها شعرت به يستحى من اسم قريته. تحاشى النظر إليها، وأدار ظهره وهو يتظاهر بمحادثة معجبة أخرى.
كانت تقف والغبنُ يملأ قلبها، والأسى والخيبة يلوّنان ملامح وجهها. قرأت بِصمته ما لم تقرأه في كتبه كلّها. ظنّتهُ زرعاً ناضجاً، لكنه مالَ قبل أن يُثمر، وفقد ماءه ولمَّا يؤتِ أُكُله.
لم يكن في الحقيقة قمراً، بل كان كومةً من حجارة وحصى، ولم يكن نجماً، بل وجدتهُ بيلاً كهربائياً يفرغ أمامها، تشحنهُ بطاريةٌ لبُّها الغرور وقشرتها التملق والبُهتان. لقد كان قمراً مشبوهاً !
أدركتْ أنه كان بخبثٍ يُلمع صور فقره القديم، ويضيف سحراً وخيالاً على حبّه لقريته التي لم يزرها قبل أعوام، لغايةِ جذب القراء، وجعْلِ صورتهِ أشدَّ لمعاناً وبريقاً.
أدركتْ أن الحبّ الذي كان يقدمه للعالم بأنه فضيلة البشر الوحيدة، ذاب واضمحلّ تحت أقدام صديقته – ممثلة الإغراء- المختبئة داخلاً.
***
أمام بوابة الفندق الكبير، وتحت رذاذ أمطارٍ خفيفة، كان قلبها يعتصر نفسه بنفسه. يدها تشدُّ بتوتر محمومٍ على الأشياء المخبأة في جيبها، وتشنجٌ بالغ القوة مصحوباً برغبةٍ جامحة تدفعها للتقيؤ. راودها شعورٌ رديء الأثر. شعورٌ قبض على أنفاسها، فرأتْ نفسها مثل كلبةٍ تتمسّحُ بساقَي صاحبها، وتقفز لتطال جسده وتداعبه بخطمها.
شعرتْ أنها كانت خرقاءَ ساذجة، وبأنها وقعت ضحيةَ خديعةٍ كبرى.
على الطرف الآخر من الرّصيف “بذورية” تعرضُ السلعَ والبضائع بشكلٍ لافت. جذبها منظرُ أكياس الخميرة المصفوفة خارجاً، وتذكرت كلمات والدتها التي كانت ترنُّ في أذنها بإطنابٍ: “خميرة العاصمة لا تضاهيها خمائر البلد كله”.
شقّتْ طريقها بين زحمة السيارات المُسرعة، وفي يدها نسخة الرواية الفريدة. دخلت البذورية. ومرت ثوانٍ خرجت بعدها بيدين خاليتين ما خلا كيس خميرةٍ كبير.
استبدلتْ نسخة المارد الروائيّ، الموقَّعة بخطّه الجليل، بخميرة والدتها المفضَّلة، وشاورتْ بيدِها إلى أوّل حافلةٍ صادفتها، ثم حشرَت نفسها بين الركّاب. تقصدُ البعيدَ؛ بعيداً عن الضخامة والصخب. بعيداً عن البُهرج والأثداء الرجراجة. بعيداً عن الخدود اللمّاعة والأسماء المتلوِّنة كالحَرابي إلى كفَّي والدها، ورائحة خبز أمها، وإلى حبيبها الأثير؛ نهرها الكبير الشمالي.
في الطريق إلى القرية كانت تبتسم، وتطفرُ من عينها دمعةٌ علّمتها؛ أننا في هذه الحياة لا نستطيع أن نحبَّ أحداً من خلال ما يكتبْ.