4 ـ القاهرة..
لم يخطؤوا حين قالوا: إن “مصر هي أم الدنيا”، فمن لم يزر مصر أو لم يطّلع على تاريخها فاته الكثير من الغنى الداخلي والبصري من الصعوبة أن يملأ بلد عربي آخر فراغه.
لا يمكنني تشكيل انطباع كبير عن القاهرة فلم اقض فيها الكثير من الوقت، أستطيع القول فقط أنها مدينة لا تنام.. فبينما أتلصص عليها من نافذتي المطلة على الشارع المفضي إلى ميدان طلعت حرب، أتثاءب متعبة نعسة بينما جميع المحلات مفتوحة، والشوارع تزدحم بالمارة الذين لا ينوون الرجوع إلى بيوتهم بينما موعد نومي قد حان.
أقارن ازدحام أسواقها بأسواق دمشق في الحادية عشرة ليلاً في يوم عادي، فأتذكر الوقفة قبل العيدين وأيام رمضان، فترة كنا ننتظرها بشوق في سنوات الحريق بعد بدء الحرب بسنتين أو ثلاث، تعود فيها شوارع دمشق المقفرة تماماً في السابعة مساء بسبب الوضع الأمني وانقطاع الكهرباء إلى حالتها ما قبل الحرب، حيث تستمر الحركة حتى وقت متأخر من الليل رغم دوي القذائف.
أول ما فعلته حين وصولي القاهرة، ذهبت إلى ميدان التحرير. حاولت أن أعايش تلك الرهبة التي تابعناها يومياً على الشاشات، حاولت استرجاع ذاكرة آلاف أقدام النمل الصغيرة التي خطت على ظهري بخط قشعريرة طويل لكن لم أستطع.
لم أر الميدان، فقد كان مسوّراً بالكامل بلافتات التعديلات الدستورية الخاصة بمدة تولي الرئاسة، وكأنه بناء قديم سوّر استعداداً لهدمه.
لم أستطع رفع موبايلي لالتقاط صورة له، فالفضاء كان متوتراً والانتشار الأمني كثيف، ولكنني التقطت صورة لشجرة على محيط الميدان تستند بفروعها على منزل قديم ذو درفات أباجور خضراء، وحيدة، مزهرة بورود حمراء متفتّحة كالسِحر في ربيع ليس بعربي، تطلّ برأسها على كل ما حولها شاهدة على ما كان وما سيكون.
*****
سألت سائق التكسي عن برج طويل على الضفة المقابلة من النيل فأخبرني أنه برج القاهرة وعلي زيارته إن استطعت، فهو أطول من الهرم الكبير في الجيزة، ويطل على بانوراما كاملة للمدينة بأهراماتها وأبي هولها. لم يكن لدي وقت لمزيد من الدهشة، يكفي ذهولي وأنا استنتج من رؤيتي للـ Google Maps أن الزمالك التي طالما ألفنا اسمها في المسلسلات المصرية لدرجة أننا تخيلنا أن كل المصريين يسكنون فيها هي جزيرة صغيرة تختبئ بين تفرعين للنيل، الزمالك جزيرة؟ ما زلت أشعر بالدهشة.
تذهلني جغرافية المدن وتضاريسها، أحاول كشف بعض أسرارها والتعرف إليها من خلال الخرائط لأتعرف على طرقها وانحناءاتها وابعادها، شرقها، غربها وجنوبها، لأتعرف على نفسي ومكاني فيها، لأشعر بالألفة وأنا استكشف حارات ضيقة قد تفوت الزائر العادي، أو ابن المدينة نفسها، تفصيل هنا وآخر هناك، ربما لم يلمحه أحد غيري.
النيل مهيب، يقطع المدينة بمسطحات من مرايا تنعكس عليها أطراف أصابع الشمس فتتلألأ بنور كالذهب. رأيته سريعاً من نافذه السيارة، لم استطع تتبع انحناءاته، لكني تساءلت إن كان لتفرعاته أسماء كما لأفرع بردى.. لا أظن.. فقد استغرب السائق سؤالي حتى اضطررت لأحدثه عن تورا ويزيد وبانياس، المزاوي والديراني والقنوات والعقرباني* لأشرح له ما أريد أن أعرف.
وأنا أرى كل هذا الألق الأزرق حزنت على دمشق، مدينة منحها الكون هبة الماء لكنها جافة، تستلقي بين سبع فروع من فضة أكلها الزنجار فصارت رائحتها جيفة.. لم نمدّ أيدينا لنساعدها، لم نمدّ أيدينا لنحييها، نطعن قلبها على مهل بإهمالنا، بإسمنتنا، بعشوائياتنا، بفقرنا، وباستخفافنا بمقامها وتاريخها ومعالمها.
من يبحث في دمشق الآن عن ياسمينه الدمشقي فلن يجده، لم تعد تلك دمشق التي طويناها بعناية في ذاكرتنا كحُلية ثمينة، وحفظنا روائح صباحاتها كأناشيد سليمان العيسى المدرسية، تلك البعيدة والقريبة في آن، محبوبة ومكروهة في ذات الوقت.
*****
أما أرض اللواء فهي حكاية أخرى.
اضطررت لإيقاف عدد من سيارات الأجرة قبل أن يقبل أحد سائقيها التوجه إلى هناك، وفي الطريق سألني الرجل بعدم ارتياح لمصيري المجهول في تلك الأرض:
– إيه يللي حتعمليه هناك؟
– شغل.
أحس أن الموضوع هام، فعرض عليّ انتظاري ريثما انتهي مما أتيت أفعله في ذلك المكان ليعيدني معه، فاعتذرت. استغرب اعتذاري بينما أوجهه إلى الشارع المطلوب المرسوم أمامي على خريطة الموبايل.
بنية معمارية مألوفة من العشوائيات، وطرقات ضيقة غير مزفتة أعادتني إلى تلك التي سرت عليها مئات المرات، حتى الدكاكين الصغيرة هي ذاتها، تختلف أحياناً أسماء شركات معروضاتها من بطاطا الشيبس ومساحيق الغسيل لكنها هي، صغيرة وفوضوية كدكانة “كانون” في أحد شوارع مخيم فلسطين في دمشق، يدخلها الأولاد ليشتروا طلبات أهاليهم أو شيئاً طيباً ليأكلوه.
الأولاد، الوجوه، وأحياناً اللباس، الآرمات الموزعة على طرفي الشارع تحمل أسماء محامين أو أطباء هي نفسها ما عدا بعض التفاصيل، كالعربات التي تبيع المانغا بدل البرتقال مثلاً.
ومع كل لفتة قتلتني الذاكرة مرات ومرات، وكأنني عدت إلى مخيم فلسطين.. ما يزال قائماً بكامل تاريخه وذاكرته لكن في زمن آخر، ما قبل الـ 2013.
كم غريب أن يتجمد بك الزمن فجأة لتعود إلى الوراء، وكأنك سجنت في عالم افتراضي يقع في مكان وزمان آخر. في ذاكرتي وأنا أخطو على طرقات أرض اللواء تنقّلت بين شارع المدارس وصفد ولوبية وموقف أبو حسن الواقع بعد موقف السينما، أو سينما النجوم، حتى أنني استرقت النظر إلى قهوة “أبو حشيش”.
جمدت الدمعة في عيني، منعتها من السقوط. ومع دخولي المصعد عدت إلى الزمن الواقعي بإحساس من تلقى صفعة وأنا أسمع “دعاء الركوب” صعوداً باتجاه “البرج الأزرق”، لم أعرف ما أفعل، أضحك أم ماذا؟
تذكرت الخطوط الجوية الكويتية حين شغّلت على شاشاتها دعاء الركوب أثناء الإقلاع فأحسست أنني داخل فلم رعب وأن الطائرة قد تسقط من السماء في أي لحظة وبقينا نتندّر بالأمر طوال الرحلة.
ومن سطح “البرج الأزرق” شاهدت الأهرامات، بعيدة، غارقة في سديم ناعم كحلم.
*****
ولأننا كسوريين ألفنا الحواجز وبنينا تدريجياً مع عناصرها نوعاً من اللغة قد لا تبدو مشتركة للبعض، لكنها لغة ذات تصنيف ما، فقد شربت قهوتي في خان الخليلي في نقطة شرطة السياحة والآثار، كي لا أشعر بالغربة. والنقطة هي عبارة عن حاجز مرتجل على زاوية شارع المعز لدين الله الفاطمي يتجمّع عنده عناصر الشرطة، في الهواء الطلق وليس مكاناً مغلقاً كما قد يخطر للبعض.
لم اندم أنني استغنيت بإرادتي عن زيارة قهوة نجيب محفوظ أو الفيشاوي كما يفعل الجميع، فأنا أحب الاستماع للقصص لأرويها لاحقاً لذلك قبلت الدعوة على القهوة دون تردد.
وهكذا تبادلنا السجائر، وبينما ادخن الـ “كليوبترا” استمعت بفضول لجزء من تاريخ الشارع وما يجب علي أن أراه، عن القصرين اللذين اختفت معالمهما قبل أن يكتب نجيب محفوظ روايته، وقليلاً عن الأوضاع الأمنية في كلا البلدين، الوضع المعيشي وعن ارتفاع سعر الدولار بالطبع.
تساءلوا إن كنت قد زرت الأهرامات أم ما زلت، أخبرتهم بأنني لا أملك لا الوقت الكافي ولا الرغبة برؤية الأموات من مومياءات محنطة في المتاحف، فقد سئمت الموت وأرغب بشيء أكثر حياة فضحكوا.
*****
القاهرة، وقهاويها المنتشرة وسط البلد.
أراقب الناس حولي وأنا أرشف القهوة من كأس صغير شفاف وأفكر بزيارتي لمجمع الأديان حيث اتكأت أماكن عبادة الأديان السماوية الثلاث على بعضها في مكان واحد. إنها المرة الأولى التي أزور فيها كنيساً يهودياً، حاولت ذلك منذ سنوات في دمشق لكني لم أستطع حينها زيارة كنيس الشماع ولا حضور صلاة يوم الاثنين.
لربما لم تعد تقام الصلوات هناك اليوم، فالعدد المطلوب لإقامة الصلاة اليهودية هو عشر رجال، ولم يبق منهم في دمشق الآن ما يزيد عن عدد أصابع كلتا اليدين.
أفكر أيضاً بالفندق حيث أقيم، “اللوتس” الذي بني في خمسينيات القرن الماضي، وكأن الزمن فيه متوقف من حينها، كل ما فيه قديم، الأسرّة، الكنبات، كلوبات الإضاءة، الملصقات الجدارية للأماكن السياحية في مصر، اللوحات، أوراق الفواتير، موديلات الهواتف ذات القرص ومفاتيح الغرف، وحتى العاملين فيه هم نفسهم من بدؤوا العمل مع افتتاحه في بداية عشريناتهم وها هم الآن في نهاية السبعينيات، يتحركون بالكاد، خطوة صغيرة تتبعها خطوة صغيرة أخرى، ببطء شديد وكأنهم يتحركون فوق الجليد. المقشة في يد عاملة التنظيفات المسنة تحتاج لدقائق طويلة كي تذهب يميناً، ولدقائق أطول لتعود يساراً.
“القشّاطة” تسمى بالـ “مسّاحة” في مصر، يمكنك استعارتها لتوقف فيضان الماء في حمام غرفتك كي لا تضطر لانتظار عامل الصيانة الذي لن يصل بدهر.
“اللوتس” مكان يشعرك بالألفة وأنصح به السوريين، فيمكن للماء أن ينقطع وأنت تستحم، والكهرباء أيضاً، تماماً كما في دمشق فتخفّ الغربة.
*****
سائق التكسي رجل ستيني يجتهد بالضغط على أزرار راديو السيارة علّه يعمل لكن دون فائدة، يكاد يقتلع الراديو من مكانه، تزداد عصبيته فأسأله: ما الأمر؟ يخبرني أن الأهلي يلعب اليوم مع فريق أفريقي في بطولة أفريقية ما تبدو مهمة.
فجأة يبطئ من سرعته لتحاذي سيارته سيارة أجرة أخرى، يُخرج جزءه العلوي من النافذة ليصرخ للسائق الآخر الذي يُسمع صوت المعلّق الرياضي عالياً من سيارته ويسأله ما النتيجة، يرد ذاك بشيء لا أسمعه، يعود الستيني ليمسك بالمقود مستاء ويضغط دواسة البنزين بعنف.
أسأله ببرودي المعتاد وفضولي عن النتيجة، فيجيبني أنها صفر للأهلي مقابل خمسة للفريق الإفريقي صانداونز.
* أسماء أفرع نهر بردى في دمشق.
مجلة قلم رصاص الثقافية