شهد مطلع الألفية الثالثة “فورة” في عالم الغناء، إثر انتشار “الستالايت” في سورية، الذي ترافق مع وصول الجهاز الصيني العجيب إلى البلاد وهو مُشغل الأقراص الليزرية، أو ما يُعرف محلياً باسم: فيديو (CD)، وانتشرت قنوات الأغاني وأقراصها الليزرية بشكل كبير، ولاقت رواجاً في الشارع السوري وكراجاته.
كذلك لعب النزوح العراقي إلى سورية إثر الاحتلال الأمريكي للعراق دوراً في تلك الفورة، واحتدم التنافس بين منتجي الأغاني والكتاب والشعراء، وصار بوسع أي مواطن بغض النظر عن عذوبة صوته، أن يُسجل أغنية ويظهر على القنوات الفضائية ليراه العالم، فوجدت الرداءة منفذاً لها، وطغت على المشهد بشكل عام، وكان هناك استثناءات طبعاً، إلا أنها قليلة، حاولت أن تُحافظ على وجودها في ظل انتشار الرداءة.
أتاح ذلك الواقع، لمطربي الحارات الشعبية، والملاهي الليلية، وحتى سائقي الميكروباصات، تصدر المشهد، فلا يحتاج الأمر أكثر من بضعة راقصات، غالباً من فتيات الملاهي، وقليلاً من المال، لتسجيل الأغنية في أحد الاستديوهات، وبثها على القنوات الفضائية، و”رقصني يا كدع”.
إلا أن تلك الفورة، وككل “فورة” مشابهة لم تستمر طويلاً، ولم تحفظ الذاكرة أسماء غالبية من ظهروا في تلك الأغاني، وكان مصير غالبيتهم الاندثار.
أما ما ذكرني بتلك الظاهرة، فهي ظاهرة أخرى شبيهة لها، انتشرت في السنوات الأخيرة، وساهمت فيها عوامل مشابهة لما جرى قبل سنوات، وهي انتشار كتابة الروايات، فما نُشر خلال السنوات العشر الأخيرة من روايات في العالم العربي وفي سورية، يُعادل ما نُشر خلال عقود سابقة، ويأتي هذا الكم الكبير من النتاج في ظل تراجع مستمر في معدلات القراءة.
فاليوم، وفي ظل ما شهدته البلاد العربية عموماً وسورية على وجه الخصوص، في الأعوام الأخيرة، أعاد التاريخ نفسه، فمع تعثّر عمل الكثير من دور النشر، وانتشار الفيسبوك، صار بوسع أي شخص أن يقدم نفسه كـ”روائي”، لا يحتاج الأمر سوى القليل من المال، وصف حكي في أوراق بيضاء يُكتب على أولها “رواية”، أما البقية فتتكفل بها دار نشر تبحث عن أية ليرة تضمن لها الاستمرار بالعمل، وجمهور الفيسبوك، الذي يُطبل ويُزمر لكل شيء، ويُغري كل من كتب بضعة “بوستات”، لأن يتحول بين ليلة وضحاها إلى كاتب وروائي، فلا ضوابط ولا احترام لحرمة الأدب، وقدسية اللغة، والمشكلة أنه ما يلبث أن يصدق نفسه حتى تتورم أناه، ليتحدث مع الآخرين من منخاره لا من فمه، كيف لا وقد صار “كاتباً” يملك رصيداً من المُعجبين الفيسبوكيين، الذين على الغالب لم يقرؤوا نتاجه، ولكن التطبيل والتزمير واجب فيسبوكي.
أما دور النشر التي ما زالت تحترم اسمها وتاريخها ولم تنجر إلى هذا المستنقع، فتحاول الاستمرار والحفاظ على ما بقي من هيبة الأدب، رغم الضائقة المالية التي تُعاني منها، وفي المقابل ابتكرت دور نشر أخرى أساليباً تقيها من تحمّل المسؤولية تجاه ما يُنتج من رداءة، فصارت تطبع كتباً وروايات ولكن دون أن تضع اسمها عليها، بغية الحصول على المال بما يضمن لها الاستمرار.
أعرف كتاباً وأدباء كان لهم شأنهم، واقتصرت إصداراتهم على إصدار أو اثنين، وتركوا مخطوطات لم ترَ النور حين رحلوا عن هذه الحياة، ولم يكن بوسعهم طباعتها، بسبب ظروفهم المالية السيئة، ولم يلحقوا هذه “الفورة”، ومن الجيد أنهم لم يلحقوها، وإلا كانوا سيموتون كمداً، وهم يشاهدون مستويات الرداءة التي وصلنا إليه اليوم.
طبعاً لا يُمكن إنكار وجود حالات إبداعية ومواهب متفردة، إلا أنها في الغالب تُظلم وتضيع في ظل هذا الواقع المتردي، والازدحام الذي لا يخدم الأقلام الحقيقية، ويُعمم الرداءة بوصفها أدباً.