محمد جهاد إسماعيل |
تجد الأنثروبولوجيا في الكتب الدينية المقدسة عدداً من الآيات أو مقاطع النصوص التي تؤيد أو على الأقل – لا تتعارض – مع نظرياتها الحديثة. أما علاقتها برجال الدين فهي جد سيئة، لأن الاختلاف والتنافر يسيطران تماماً على هكذا علاقة.
يمكننا القول إن ثمة نقاط التقاء أو اتفاق بين الدين (كنصوص) والأنثروبولوجيا، بيد أن العلاقة بين رجال الدين والأنثروبولوجيا تكاد تخلو من وجود أي وجه للاتفاق، فهي علاقة متشنجة يسودها الاختلاف على طول الخط.
تعد مسألة البدء البشري، واحدة من أهم القضايا الخلافية الجوهرية بين رجال الدين والأنثروبولوجيا. ففي الوقت الذي يؤكد فيه رجال الدين أن آدم هو أول البشر، وأن الله لم يخلق أحداً من قبله، يرى العلماء أن آدم لم يكن أول البشر، إنما سكنت الأرض من قبله أقوام بشرية أخرى.
هذا ما يقودنا للحديث عن نظرية التطور وموقف الفريقين منها. ففي الوقت الذي يتبنى فيه تقريباً كل علماء الأنثروبولوجيا هذه النظرية على اعتبار أنها وفق رؤيتهم نظرية مثبتة علمياً ومقنعة، نجد رجال الدين يرفضونها بالكلية، ويهاجمونها بضراوة، متهمين المنادي بها أو معتنقها بالضلال والهرطقة.
أثار تشارلز داروين صاحب نظرية التطور جدلاً وخلافاً واسعاً بين الفريقين. فرجال الدين هاجموه بشدة، ونسبوا إليه المقولة القائلة (أصل الإنسان قرد). أما العلماء فانبروا للدفاع عن زميلهم، متهمين رجال الدين بالجهل والتخلف وإلقاء التهم جزافاً. وللحقيقة فإن داروين لم يقل أبداً تلك العبارة المنسوبة إليه، إنما كان طيلة حياته العلمية فطناً حذراً عند استخدامه المصطلحات وانتقاءه الألفاظ.
أيضاً تعد ثورة النيوليت أو الثورة الزراعية في عصر النيوليت مسألة خلافية بين الفريقين. إذ يعتقد علماء الأنثروبولوجيا أن الإنسان اكتشف الزراعة واستأنس الحبوب والمحاصيل في العصر الحجري الحديث (النيوليت)، وأن النظام الغذائي للإنسان كان قائماً قبل ذلك على اللحوم والثمار البرية. بينما رجال الدين لا يتقبلون هذا الطرح أبداً، فهم ينظرون إلى ثورة النيوليت على أنها واحدة من إفرازات نظرية التطور، كما أن مفهوم الزراعة مرتبط لديهم بمجيء آدم وولده قابيل، الذي عرف عنه ممارسة الزراعة وفلاحة الأرض.
لقد تصادم رجال الدين مع الأنثروبولوجيا وبحدة، حول مسألة البدء البشري، ونظرية التطور، وداروين، وكيف ومتى عرف الإنسان الزراعة. لكن النصوص الدينية كانت على العكس من ذلك، تبدي مواقف أكثر تفهماً ومرونة. فالعديد من الآيات والنصوص في القرآن الكريم والعهد القديم تركت الباب موارباً، أمام العلماء، ليواصلوا أبحاثهم بهدوء وطمأنينة، سواء في مسألة البشر الما قبل آدم، أو في باقي المسائل الخلافية بين الأنثروبولوجيا ورجال الدين.
لذلك فإن مشكلة الأنثروبولوجيا هي ليست مع الأديان أو كتبها المقدسة، بقدر ما هي مع رجال الدين، الذين يأخذون على عاتقهم مهمتي تأويل النصوص الدينية، وإصدار الأحكام باسم الدين.
أعتقد من الصعب جداً، أن يتصالح رجال الدين مستقبلاً مع الأنثروبولوجيا، طالما هم متمسكون بطريقة تفكيرهم الجامدة، ولا يراعون الأخذ بمعطيات العلم، عند صياغة تفاسيرهم وأحكامهم.
كاتب من فلسطين | مجلة قلم رصاص الثقافية