مأزق العقل العربي وأزمته، وإشكاليات التراث العميقة مع الفكر العربي، كانا العنوانان الأهم والابرز خلال القرن العشرين، من خلال حوار الفكر ونفسه، وعبر التجاذب والتنافر بين عدة تيارات فكرية تأطرت في اتجاهين رئيسيين، هما السلفية والأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة، والتراث والشيخوخة بمواجهة التجديد والتنوير، ودعاة التعدد والمشاركة والتسامح في وجه الأفكار والسياسات التي تدعو للكراهية والمركزية والإقصاء. تم تلخيص محنة العقل العربي بثنائيات أسست لحالة جدل وسجال لم تنتهي بعد، ودفعت رواد ومفكري ومثقفي هذه التيارات إلى ميدان معركة تسببت-ولا زالت- بشقاء الأمة.
بالرغم من كافة مظاهر الحداثة في العالم العربي، إلا أنها تخفي انحداراً وسقوطاً فكرياً وثقافياً واقتصادياً مرعباً. لأن التقنيات التي يستخدمها المواطن العربي، هي أداه وظيفية منفصلة تماماً عن عقل المستخدم، لذلك هذا التفاعل لم يؤسس لتقدم حقيقي ولا لإبداع ذاتي، وتحول الوطن العربي إلى أقوام مستهلكة لإنتاج الآخر. السؤال الكبير الذي ينبثق هنا والذي طالما نردده، لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب؟
ما زال الفكر العربي الحديث غارق في مستنقع أزمته، بالرغم من المحاولات الجادة البحثية والنقدية والتأصيلية التي قام بها عدد من المفكرين العرب، لعل أبرزهم من وجهة نظري المشروع التحديثي النقدي الذي قاده المفكر المغربي “محمد عابد الجابري”، الذي حاول إعادة الاعتبار والمكانة للعقل العربي بعد أن هيمنت عليه الأيديولوجيات في القرن العشرين.
أزمة العقل النقدي العربي
إن التخلف والتصلب والتثاقل في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية في العالم العربي، واللبس والاختلاط الواقع في العديد من المفاهيم أبرزها قضايا بناء الدولة والحريات العامة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية والمشاركة في الحكم والتعددية، إضافة إلى سيادة الأنظمة الأبوية والعشائرية بفكر بدائي، والنزعة الاستبدادية الجائرة والقمع والظلم، وغياب النقد وعدم وضوح الرؤى المستقبلية، وعدم وجود مشاريع جيو استراتيجية، وإشكالية الإصلاح والتغيير والتحديث والتنمية المستدامة، جميعها-إضافة إلى عوامل أخرى- أدت إلى فشل مشروع النهوض العربي، وشكلت سداً منيعاً أمام دخول العرب إلى عصر الحداثة والتقدم حتى لو من الأبواب الجانبية.
لا بد من تفكيك الموروث العربي والإسلامي ودراسته وتحليله ثم نقده، وبهذا فقط نستطيع إعادة قراءة هذا التراث بصورة نقدية مختلفة، لا بطريقة استعراضية، لفهم ومعرفة دور هذا الموروث ومكانته في العقل والفكر العربيين.
أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي المفكر المغربي الدكتور “محمد عابد الجابري” قاد مشروع تحليل وتأويل وتفسير التراث الإسلامي لتبيان مقدرته المعرفية في توفير نوافذ الانفتاح على الآخر، وإعادة قراءة وتحديد مفاهيم التاريخ والأيديولوجيا والهوية والاختلاف، وذلك بواسطة الأدوات النقدية للمشروع الغربي، أي قيام المشروع الفكري المغربي المعاصر بقراءة ومقاربة ماضيه وحاضره عبر المذاهب النقدية الغربية.
المؤرخ والروائي المغربي المفكر الدكتور “عبد الله العروي” يعتبر أن المرجعية الفكرية الوحيدة للبلدان غير الغربية هي فقط الفترة الممتدة من عصر النهضة التي انبثقت بإيطاليا في القرن الرابع عشر إلى الثورة الصناعية في أواسط القرن الثامن عشر، ودعا العروي إلى التسليم للفكر في سياقه وصيرورته التاريخية، والإيمان بحقيقة الأحداث التاريخية وتسلسلها. وفصل العروي بين الأصالة والتراث وخصوصية المجتمعات، واعتبر أن الاصالة تتسم بالسكون والثبات، فإن الخصوصية متحركة ومتغيرة على الدوام.
لكن الجابري الذي يختلف مع رؤية العروي، انتقد هذا المفهوم وتعامل مع التراث بصورة تجعله قريباً وتحاور معه لإخراجه بإطار معاصر. وقام بتحديد ثلاث اتجاهات فكرية للمقاربة وهي قضايا الواقع الراهن على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وثانياً التراث، وثالثاً الفكر العالمي المعاصر، ويعتبر الجابري هذه السياقات حقولاً معرفية. وأن جمود العقل في العصر الإسلامي كان نتيجة غياب العقلانية اليونانية التي تعتبر من وجهة نظره العنصر الثالث للعقل العربي، وهو أمر يتعارض مع المقاربة الدينية التي تنظر للعقل البشري على أنه عاجز عن إدراك علوم الغيب، وأن حصول الإنسان على معارف يتدبر بها شؤون الحياة لا تأتي إلا من مصدر وحيد هو الحقيقة العليا.
يميز الجابري في نظام “العرفان” بين الموقف الفردي والفكري الرافض للعالم والذي ينشد العلاقة مع الله، وبين العرفان كفلسفة للخليقة من المهد إلى اللحد. والعرفان كرؤية ميثولوجية رفدت البيان العربي بلا معقول عقلي أدى إلى أن يستقيل العقل العربي. وتساءل في تناول نقد العقل العربي عن إمكانية قيام نهضة بغير ناهض.
في القرنين الخامس والسادس الهجريين سعى عدد من المفكرين الإسلاميين العرفانيون مثل “ابن عربي” إلى تأسيس البيان العربي الإسلامي على العرفان، وبذلك مهدوا الطريق أمام تجميد العقل العربي، وصار المتصوف يهزم الفيلسوف. فيما فعل “ابن رشد” العكس في المغرب حيث بنى البيان على البرهان. وهذا ما نلمسه في الواقع الثقافي العربي الراهن، إذ لا وجود ولا أثر ومكانة للفلسفة، بينما ما زال التصوف الأكثر حضوراً. واقع يؤكد عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا.
العقل العربي وسؤال الدين
معضلة العقل العربي في علاقته المربكة الملتبسة مع الدين والسياسة التي جثمت فوقه عبر قرون، وابتعاد هذا العقل عن النقد والتحليل والتفكيك، لا زالت أهم المعوقات لقيام مشروع إصلاحي نهضوي تحديثي يمتلك إمكانيات لدفع الأمة نحو التقدم والتطور.
اتسمت العلاقة ما بين العقل العربي والسلطة السياسية بالخشونة والنفور غالباً، لكن هذه القسوة من جانب السلطة السياسية في علاقتها الحذرة مع العقل العربي، لم تصل إلى درجة تعرقل الحركة الفكرية إلا بمقدار قيام الفكر بتوجيه النقد المباشر والواضح للأنظمة السياسية، أو حين -بصورة أقل- يتم توجيه النقد للمؤسسة الدينية بثوبها المتحالف مع السلطة السياسية الحاكمة.
في بداية القرن التاسع عشر بدأ احتكاك العقل العربي بصورة مباشرة مع الفكر والثقافة الغربيتين، لكن حذر الدولة العثمانية من الأفكار القادمة من أوروبا، ونتيجة الريبة التي كانت تبديها تجاه المثقفين العرب -على قلتهم- حيث كانت تجري محاولات تتريك الثقافة والفكر في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، كانا عاملان أعاقا أي تطور للفكر العربي. لكن في النصف الأول من القرن العشرين أمكن للعقل العربي أن يكون حركياً وأن يكون منتجاً، حيث نشطت حركة الترجمة، وتوسعت عمليات التأليف، وظهرت نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، اشتغلت بموضوع الأدب والتراث والقومية العربية. ونجحت تجربة “عباس محمود العقاد” وغيره من الرواد في مصر بالبحث والتحليل العقلي وفي تنشيط وتحفيز الأدوات العقلية دون أن يفقد العقل مكانته أمام الدين، ودون أن تُمس قداسة الدين.
الفكر العربي المعاصر أدرك الشرط الموضوعي لعلاقته مع المؤسستين السياسية والدينية، وتمكن من قراءة واقع المرحلة، فكان نقده للخطاب الديني والسياسي متوازن وعقلاني دونما شطط، وهكذا تعايش العقل العربي مع المؤسستين بمناخ ليبرالي استمر لغاية نهاية اربعينيات القرن العشرين. إن العقل الأوروبي الذي أحدث النهضة تحلل من قيد الدين وهدم سلطة الكنيسة، بينما الفكر العربي في تلك المرحلة لم يكن مشككاً، وتعامل مع الفقه باحترام كونه جزء من التكوين الفكري العقلاني العربي.
بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، تم اعتماد العقل في الاجتهاد الفقهي، من قبل المؤسسة الدينية التقليدية في فجر الإسلام قبل أن يتم تسييسها. إن العقل العربي حين أقبل على الفلسفة الإغريقية كانت غايته ردم الفجوة الفكرية بين الدين والعقل، وحين احتك بالفكر الأوروبي الحديث كان هدفه هو وصل الجسور بين الدين والعلوم الحديثة. وهكذا فإن مشروع “ابن رشد” الفلسفي كانت غايته إثبات عدم التعارض بين الشريعة والتفكير والتحليل والتأمل. ومشروع “ابن خلدون” كان هدفه تحليل وتفكيك البنية الاجتماعية ومقاربتها.
لكن حين شرع الغرب في بناء مشروعه، كان الاجتهاد الديني في الحالة العربية قد أغلق نوافذه على نفسه وانكفأ بعد خمسة قرون من تطور الحركة الفكرية والتقدم. لقد ظن فكر المؤسسة الدينية أن لا فكر جديد ولا اجتهاد جديد ولا استنباط جديد يمكن لها أن تُقدم عليه بعد اجتهاد السلف والأجداد. توقف الاجتهاد في العقل العربي رافقه تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية، جعلت من المؤسسة الدينية التي تم تسييسها تضيق على العقل العربي وتحاصر الفكر وتمنع النقد.
تحالفت السلطتين الدينية والسياسية لقمع العقل العربي، الذي غالباً ما كان يتراجع وينعزل طلباً للسلامة مما أوصله لحالة التصلب والجمود الفكري. وهكذا بينما كان العقل الأوروبي يحقق تطوره ويحطم القيود التي تحول بينه وبين العلوم والمعارف، كان العقل العربي في حالة من الخمول والخوف والتردد، واكتفى بالنقل والنسخ والتقليد والتكرار للموروث ولفكر السف الصالح. كان الفكر العربي منشغلاً في إذكاء روح التنافس بين الفكر ونفسه، وكان العقل العربي غارقاً في شرح وتفسير وتحليل وتفكيك المفكّك والمفسر. أي كان العقل والفكر العربيين يعيدان إنتاج نفسهما دون تحقيق أي تطور ولا تقدم، دون أي تغيير ولا تبديل، دون أي نقد أو اجتهاد. أي كانا يراوحان مكانهما فأصيبا بالوهن والضعف والتصلب.
منذ منتصف القرن العشرين واجه العقل العربي قمع السلطة السياسية الوليدة، وعانى من استبداد الأنظمة العربية التي تحررت حديثاً بعد طي صفحة الاستعمار، حيث سعت هذه السلطات إلى السيطرة على العقل العربي وقولبته، وقامت بصياغة مفاهيم الفكر بعيداً عن شرط تطوره وهو شرط الحرية. لقد نصبت الأنظمة العربية نفسها وصية على العقل العربي وتحكمت بروافد تغذيته. ضيقت عليه وطوعته لإخضاعه وإخضاع الفكر والأفراد لإرادتها ورؤيتها. أحاطته بالأجهزة الأمنية التي تعد له عدد مرات الشهيق، وأرهقته بضنك الحياة والبحث عن لقمة العيش التي تضمن حياة شبه كريمة.
في الألفية الثالثة، عصر الثورة المعلوماتية والجيل الرابع من التقنيات الحديثة، تقوم في المشهد العربي تحالفات بين المؤسستين السياسية والدينية التقليدية ضد العقل العربي، وضد حريته وحقوقه في البحث والتحليل والنقد والمقاربات والإنتاج والإبداع والتواصل مع الآخر. حان الأوان لإزالة كافة القيود المفروضة على العقل والفكر، وعلى المفكرين والمثقفين، وتلك التي تعترض عملية الإنتاج الفكري والإبداع الثقافي، إن أردنا الاستيقاظ من غيبوبتنا التي طالت.
سؤال الحرية
لا يمكن تحليل العقل الإسلامي ونقده دون قراءة وتقييم شامل لكافة مكونات الموروث في الفكر الإسلامي منذ نشأته وتطوره إلى غاية دخول العقل العربي فترة الانحدار التي تواصلت حتى القرن التاسع عشر. لذلك فإن محاولة قراءة وتفكيك وتحليل بنية العقل العربي تحرّض على إثارة أسئلة إشكالية أبرزها سؤال الحرية الذي يُعتبر المكون الأهم في قيام أية نهضة وتقدم. في الحالة العربية ما زال سؤال الحرية معلقاً دون توفر أي من شروطه المرتبطة بالحرية الفكرية واستقلال العقل العربي وتطويره وتحديثه كي يصبح عقلاً نقدياً يواجه الاستبداد واللاعقلانية والايديولوجيات الثابتة.
بالرغم من أن الإسلام قد كرّم العقل ودعا إلى استخدام العقل في القرآن الكريم، إلا أن الفكر الإسلامي بأبعاده ومفاعيله اللاهوتية مكث فوق الوعي الاجتماعي قروناً عديدة أدت إلى تراجع وانحسار دور العقل، فانفصلت الثقافة العربية عن السؤال والنقد.
مع أن علم المنطق والفلسفة قد تطورا في منتصف القرن الثامن الميلادي، واستمر هذا التقدم لغاية القرن الحادي عشر، حيث تميزت تلك الفترة انتعاشاً للفكر العقلاني العربي الذي دخل في مواجهة العقل والفلسفة الاغريقية لأول مرة.
إلا أن الفلسفة بثوبها العربي خسرت رهانها ومعركتها التاريخية في مواجهة الجهل والاستبداد والأفكار الظلامية، فعلت أصوات التكفير بدلاً عن التفكير، وشاعت الأساطير والخزعبلات وانكمشت الحقائق. تم اغتيال حرية التفكير فتوقف كل شيء مكانه وتحجر، وأصيب العقل العربي بالضمور، ثم تراجع الفكر العربي فتراجعت الأمة كاملة. لأن الفلسفة في بنيتها ومكانتها ضد الخنوع والإذعان والأوهام.
إن الحرية باعتبارها أهم وأول شرط لتحقق الذات، هي أبرز مبادئ الديمقراطية بصيغتها المعاصرة، وهي أصل الصراع في أن حرية اختيار الأفراد لنظامهم السياسي والاجتماعي، في أن يكونوا أحراراً أو عبيداً. إن الوصاية على الدين وعلى الفكر الإسلامي لدى بعض المفكرين لضبط الحرية كما هو حاصل في الراهن العربي، هو أمر يتعارض مع استخدام العقل والفكر النقدي، ويعيق النهوض والتطور، إذ لم يكن الدين يوماً يتعارض مع سعي البشر نحو تحقيق الحقوق الوضعية التي تضمن حياة كريمة للناس وترفع عنها المظالم.
لقد فشلت جهود الرواد من عصر النهضة التي بذلت لتأسيس مشروع عربي على أسس حديثة بسبب غياب العقل النقدي. ولم تتمكن النهضة من تشكيل أدواتها العقلية الخاصة، ولا هي قامت بمقاربات موضوعية مبنية على فهم سليم لتجربة العقل الغربي الذي كان قد تجاوز تراثه وتحرر من قيوده. عانى مشروع النهضة من السلطة القمعية التي كانت بمثابة معول يهدم كل بناء في اتجاه حداثي تنويري، ولذلك فإن هذا الفشل إنما يعود إلى أسباب موضوعية أسهمت في تغييب العقل النقدي، لا إلى قصور في بنية الفكر العربي.
كان رواد النهضة ينادون بالحرية ويدعون إلى سلطة العقل، ولذلك ظل سؤال الحرية كسيحاً لأنه لم يتم تحقق شرط استقلالية العقل الذي بقي خاضعاً لسلطة الأيديولوجيا السلفية، وبهذا تم خلع الفاعلية النقدية عن العقل العربي. مع غياب النقد أضاع المشروع النهضوي أحد أهم أسلحته وأدواته التي تمكنه من تحليل ومقاربة الواقع بعلمية، وأن يوظف النقد الذاتي ونقد الآخر، وكذلك النقد الفكري في عملية تحديث وتطوير الوعي الجمعي. لكن الموروث المتخشب بفهمه والمؤطر غيبياً سيطر على العقل الاجتماعي وأنتج ثقافة صوفية تمددت على حساب انحسار حركة العقل، مما أدى إلى زوال هامش الحرية. لهذا تماماً فشل المشروع النهضوي لأنه عجز عن إحداث أي تقدم علمي يدفع للنهوض والتطور، كما أخفق في الانعتاق من السيطرة التامة للموروث الذي فرض سطوته ولا زال. إن كافة الأمم التي حققت الازدهار تمكنت من ذلك بفعل طي صفحة الماضي وتجاوز القيود التي تكبل العقل والفكر.
من تفلسف قد تمنطق
كما قال العالم الفقيه المحدث “ابن الصلاح الشهرزوري” ذات واقعة أن “من تفلسف قد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق” وأعادها بعده شيخ الإسلام “ابن تيمية” في العصر العباسي حين نشطت حركة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية. وأعتقد أن تاريخ الفلسفة وتأويل المصطلح المقترن بالمنطق والفهم الخاطئ قد تسببوا بالربط الذهني لدى البشر بين الفلسفة والكفر والعصيان وبين المنطق والإلحاد، وهو في الحقيقة موروث ثقافي لا صلة له بالمعرفة. ما وقع تاريخياً من جدال وإشكاليات إنما يعود بظني إلى الاختلاط واللبس بين الوحي والوعي والعلاقة بينهما في اتصالهما وانفصالهما. بلا شك أن الوحي قضية سماوية الهية، بينما الوعي شأن وضعي للإنسان فيه حرية الاختيار والقرار، أن ينفصل أو يتصل.
لقد وفدت الفلسفة اليونانية لبلاد العرب والإسلام في عصر خلفاء بني أمية في القرن الأول الهجري، لكنها لم تنتشر لأن السلف كانوا يتحفظون عليها. وسميت علوم الأوائل، أي الفلسفة والمنطق. وفي العصر العباسي نشطت حركة الترجمة وازدهرت، فتم نقل الفلسفة اليونانية للعربية ابتداء من عهد الخليفة المهدي حتى وصلت إلى قمتها في عصر الخليفة المأمون. واعتمد المسلمون الأوائل على فلسفة أرسطو وأفلاطون بصورة خاصة، ثم مزجوها بالعقائد الدينية فتشكل خليط فكري جديد.
من أهم أسباب انتشار الفلسفة في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي كانت سعة الأفق الفكري لدى الخلفاء العباسيين الأوائل، وشيوع ثقافة التسامح الديني والانفتاح على غير المسلمين، وهذا أتاح قيام مناظرات حوارية فكرية صقلت وتطورت القدرات العقلية للمسلمين، مما شكل دافعاً مهماً في إسهامهم بالحركة العلمية والفكرية والثقافية التي وصلت ذروتها في ذاك العصر.
لكن هناك تيارات فكرية إسلامية دعت إلى الأخذ فقط بعلوم العرب وإسقاط أي علوم أخرى وما تشتمل عليه من علوم رياضية وطبيعية وفلك وموسيقى وغيرها. الإمام “أبو حامد الغزالي” اتخذ موقفاً وسطياً واعتبر أن ليس كل علوم الأوائل ضارة، فهناك الرياضة وعلم المنطق مثلاً وهما علمان لا يتعارضان مع فلسفة العقيدة الدينية.
كان “الغزالي” كفيلسوف يتمتع بالجرأة والذكاء في مواجهة التيارات الفكرية بعصره، وقام بنقد تطرف بعض الفرق بدافع إخلاصه للإسلام. وقد اتبع في فلسفته منهجاً عقلياً يعتمد الشك والحدس الذهني. ثم تحول من الفلسفة إلى التصوف لكنه لم يهمش العقل في تصوفه، وظل العقل عنده حجة على غلاة الصوفية، فهو يؤمن أنه لا يمكن أن ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، فالعقل هو المعيار في صدق وحقائق المعارف، أما الغيبيات فلا بد من التسليم بها ولها.
مع ذلك فإن بعض الفرق الإسلامية لم تكن راضية عن دخول أي فكر أو علوم دخيلة على الإسلام، فالعلوم عندهم هي فقط العلوم المتوارثة عن النبي “محمد ﷺ” وباستثناء ذلك فهو ليس علماً، وإنما معرفة لا تستحق التحصيل، بل أنها قد تكون معرفة ضارة تدفع بحاملها إلى الاستهانة بالدين.
إن كان “الغزالي” حاول بعقلانية التصدي لإسراف بعض الفرق المتطرفة في الإسلام التي كانت ترفض مطلقاً الفلسفة اليونانية، حتى أنه لم يستخدم مصطلح منطق كعنوان لأي من مؤلفاته الكثيرة لعدم إثارة حفيظة هذه الفرق، إلا أن المحافظين اعتبروا دراسة الفلسفة ضرباً من الزندقة، وقيل في هذا الشأن أن من تمنطق فقد تزندق. وما زال الموقف الشائع عند أئمة الفقه أن منهج البراهين التي تعود إلى فلسفة “أرسطو” خطراً على الفكر الإسلامي والعقيدة. الفقيه “الشهرزوري” اعتبر أن الفلسفة “سفه وانحلال، ومادة حيرة وضلال، وتثير الزيغ والزندقة” واعتبر المنطق مدخلاً للفلسفة ومدخل الضلال ضلال.
انحسار الفكر الفلسفي
حين تم نقل الفلسفة اليونانية وعلم المنطق على اعتبارهما تمثلان النظرة العقلانية، استخدمتا كأداة في مواجهة التيار الفكري الإسلامي اللا عقلي الذي كان سائداً، ثم انشق العقلانيين على أنفسهم، فخرج منهم فقهاء هاجموا الفلسفة، وتركوا خلفهم المعتزلة وحدهم في الميدان الذين حافظوا على منهج العقل، وبعضهم تحولوا إلى أشاعرة الذين تركوا للإيمان الصرف قسطاً وللعقل قسطاً آخر.
الإشكالية تكمن في انحسار الفلسفة والتيار العقلاني في الفكر العربي الإسلامي وتحجيم دور العقل الذي دخل إلى منطقة مظلمة، وتبدلت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضاق العقل كثيراً بحيث أصبح ينظر لكل فكر فلسفي على أنه كفر، ثم انحاز العقل للطوائف والمذاهب منذ القرن الحادي عشر. بعد ذلك توقف التفكير العقلاني وتوقف النقد، وتوقف كل إنتاج فكري وفلسفي جديد، ولم يتجدد أي عنصر من مكونات الفكر العربي والإسلامي، واكتفى الفكر بالنقل الذي توسع واشتد وأصبح ذا سلطة واسعة مؤثرة في بنية الفكر العربي لقرون مديدة، حيث كان الفكر العربي يعيد إنتاج نفسه دون أي تطور وإبداع وتحديث.
يعتبر الدكتور “محمد أركون” صاحب مشروع تجديد الفكر العربي أن الصوفية هي تمرين فردي للتواصل بين المؤمن وخالقه، بصورة مستقلة عن الشعائر والفرائض والعبادات التي تؤديها الجماعة. ويرى أن سلطة العقل لا تعني مطلقاً تجاوز سلطة النص بقدر ماهي قراءة ومقاربة مختلفة في ضوء المعارف والعلوم الحديثة.
إن العلوم لم تكن منفصلة عن الفلسفة عند الإغريق ولا عند العرب في القرون الوسطى، حيث أكد الفيلسوف والطبيب “ابن سينا” على ارتباط الطب بالفلسفة في كتاب “الشفاء” مثلما اعتبر الكيميائي “جابر ابن حيان” الذي وضع الأسس العلمية للكيمياء الحديثة والمعاصرة، أن الكيمياء مرتبطة بالفلسفة. كما أن القرآن الكريم قد شجع وحث على العلم وتحصيل المعرفة. حتى أن المسلمين نمت لديهم مختلف العلوم وازدهرت لدرجة أن الغرب قد بدأ ينقل هذه العلوم عن العرب والمسلمين. لكن هذا الازدهار في الحركة المعرفية العلمية توقف لأسباب ترتبط بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بداية من القرن الثاني عشر ميلادي، ولا تعود إلى سلطة الضبط والهيمنة اللاهوتية.
وهكذا تراجع البحث العلمي ليخلو الميدان للخطاب التعبوي الأيديولوجي، الذي كلما اشتد وأصبح أقوى كلما تقلصت مكانة العقل والفكر العلمي النقدي في البنية العربية. هذا التراجع أضحى مرعباً في القرنين الأخيرين، حيث اعتمد العرب والمسلمون التصلب الأيديولوجي لمقاومة الحملات الصليبية، ثم ظهرت حركة سلفية إصلاحية في القرن التاسع عشر لكنها فشلت، لأن القطيعة مع العقل العلمي كانت قد ترسخت في الفكر العربي، ثم ظهرت الأيديولوجية القومية في القرن العشرين التي أعاقت في نضالها التحرري كل محاولة لدراسة العلوم التي ظلت ولا زالت الأقل تحليلاً من كافة جوانب التراث الإسلامي.
معركة شقاء
وهكذا استمر العقل العربي مشتتاً بين التراث والحداثة، وفي كل مرة يتم فيها محاولة إعادة قراءة التراث وفق العقل الاستبدادي يتواصل إعادة إنتاج التخلف. ورغم أن العقل العربي قد صدم بالحداثة عبر احتكاكه مع العقل الغربي في القرن التاسع عشر، إلا أن تحديث الفكر العربي ظل حبيس أطر ومفاهيم أيديولوجية، ولم يتجدد بذاته كممارسة نظرية عقلانية، لأن المثقفين العرب الذين رفعوا لواء النهضة لم ينعتقوا من قيد الأيديولوجيا، ولم يتمكنوا من صياغة فكر نقدي لهويتنا ولعلاقتنا مع الآخر. ومكث العقل العربي في صندوق الأنثروبولوجيا مما شكل حائلاً دونه والتجديد والإبداع.
بعض رواد مشروع النهضة العربية وظفوا الدين لصالح السلطة السياسة، والبعض جعل السياسة في خدمة الدين، لذلك فشل هذا المنهج في تحقيق أي إصلاح في البنية الفكرية العربية. وكانت الفلسفة مادية برهانية تقوم على الحجة والأدلة في المغرب العربي، فيما كانت الفلسفة في المشرق مثالية لاهوتية تقوم على التأمل.
نظريات ومذاهب وأفكار وفدت على المنطقة العربية من كل صوب وحدب، عبر روافد متعددة ومتنوعة ومتشابكة، دون أي تأصيل ومن غير تهيئة البيئة العربية لهذه النظريات، ولا الاشتغال على الفكر وتعديله ليكون متوافقاً مع الحالة العربية. مثل النظرية الماركسية التي نقلها اليساريون العرب، فكانت محنة العقل اليساري العربي حالة من الفصام الفكري، حيث تجد يساريين وأحزاباً يسارية لكن من دون فكر ماركسي.
العقل العربي تجاذبته المفاهيم والنظريات والأفكار المعاصرة منها والموروثة، وعانى من السلطة الدينية المتشددة، ومن الاستبداد السياسي، ومورس عليه التهميش والتضييق والإلغاء والقولبة والقهر والاعتقال بل والقتل. تمت مصادرة حقوقه في التفكير الحر المستقل وفي التحليل والنقد والإنتاج دون قيد.
إننا نحتاج عقل جديد ورؤية أخرى وقراءة هادئة ومقاربة مختلفة لتاريخنا العربي والإسلامي ولتراثنا الثري. العقل العربي يحتاج أدوات مغايرة للبحث والتحليل والدراسة. إن العقل العربي ليس عقلاً قاصراً ولا فاشلاً ولا عاجزاً بل يحتاج إلى معلمين وملهمين ونماذج متميزة عما هو سائد. ولا يحتاج العقل العربي إلى مزيد من الكراهية والطائفية والمذهبية والعرقية التي فتكت به.