الرئيسية » رصاص ناعم » علكة معلوكة
لوحة للفنانة الجزائرية باية محي الدين

علكة معلوكة

-“تمارة…تمارة…أين ذهبتِ؟…أين ذهبَت أمك يا لولو؟”

-“لا أدري”

ردّت عليّ بلا اهتمامٍ وبسرعة ومن دون أن تفكّ التصاق عينيها عن الفأرين؛ أقصد (بينكي وبرين) الفأرين الكرتونيين الغبيّين رغم أغنية البرنامج التي تقول:

“برين عبقري، وبينكي هو الغبي

في الليل يهربان، دوماً ويسعيان

للسيطرة على العالم، فهل سينجحان؟”

كنتُ صغيرةً فأُعجبتُ بذكاء خطط “برين”، والآن كبرتُ وأدركت مدى غباء من يحاولُ السيطرة على العالم.

إن “لولو” كأمها لا يمكنُ أن يقاطعَ تركيزها شيءٌ، ولا حتى الفستان الذي أرتديه الآن في تجربةٍ لأدائه الجمالي، كلُّ ما أمضيتُه من وقتٍ كان خمس دقائق فحسب غبتُ خلالها عن أختي التي بقيت في الصالون مع ابنتِها متجهةً إلى غرفةِ النوم كي أقيسَ فستانها الذي استعرتُه منها من أجل حضور زفافِ صديقتي به، كيف اختفيتِ فجأةً يا “تمارة”؟!

بقيتُ على حالي بفستانٍ يتماوج فيه اللّونان الأبيض والزهريُّ، وهو بدوره متموّجٌ بطريقةٍ تدعو للاشمئزازِ، يا لَها من مكواةٍ عملاقةٍ تلك التي سيحتاجها كي يعودَ الهدوءُ إلى هذه العاصفةِ التي “علَكت” خيوطَه!

لا بدّ من انتظار “تمارة” إذن، جلستُ على الأريكةِ الأخرى القريبة من التلفازِ وسُحبتُ بلا إرادةٍ إلى العالم الكرتونيّ السّاحر إذ لا مناص من مغناطيسه البريء، نعم…علكة معلوكة، يا لطرافةِ هذه الحلقة! أتذكرُها تماماً حين يربحُ “برين” في أحد برامجِ المسابقات علكةً معلوكة، أتذكرُ شعوري عند هذه اللقطة بالتّحديد، أضحكَني وقتَها منظرُ العلكة المعلوكة الزهريّةِ اللون وقد غُلِّفَت بشكلٍ لا يقلّ ترتيباً وعنايةً عن أية هديّة أخرى، وأضحكتني أكثر الدموع التي اغرورقت بها عينا “برين” فرحاً بهذه الجائزةِ القيّمةِ فهو –كما يقول- لأول مرّة في حياته يربحُ علكةً معلوكةً.

الآن يحلُّ التفكيرُ والتحليلُ محلَّ الضحكِ العفويّ، كيف لعنصرٍ تافهٍ بل مقرفٍ أن يصنعَ مادّةً ترفيهيّةً بهذا الجمال! علكة معلوكة؟!! أيّ مخٍّ امتلكهُ كاتبُ هذا البرنامج الكرتونيِّ؟ ما نوع الطعامِ الذي يتناوله؟

ربّما كان علكاً معلوكاً.

هذه النقطة، هنا تحديداً، بدت كأنها سدادةٌ أُزيلت عن سيلٍ من الأفكار المتداعيةِ، تذكرتُ العلكة المعلوكة في فيلم “ليو: ذا بروفيشنال”، لقد كانت عنصراً أساسياً بحقّ، فكيف لـ”ليو” و”ماتيلدا” أن يجبرا الأشخاصَ المستهدَفين على فتح أبواب منازلهم من أجل قتلهم لولا تلك العلكةُ المعلوكةُ التي سدّت بها “ماتيلدا” العين الساحرة في الباب مانعةً إياهم من رؤيةِ مَن في الخارج فيضطرون لفتح الباب؟

تذكرتُ أيضاً تلك العلكةَ المعلوكةَ الرومانسيةَ التي لولاها لَما تزوّجت الفنانة المشهورة، فقد ذكرَت في إحدى مقابلاتِها اللقاء الأوّل الذي جمَعها بمَن أصبحَ زوجَها الآن، طلبَ إليها آنذاك وقد كانت تعلكُ أن تعطيه علكة، فقالت له إنها لا تملكُ إلا التي في فمها ليأتي الردُّ الصاعق بأنه يريدها، تحدّتهُ وأخرجتها من فمها ليأتي الفعلُ الـ”أصعق” بتناوله إيّاها…إنه الحبُّ من أول علكةٍ معلوكةٍ… يا له من قرفٍ رومانسي! ولكن…ولكن لمَ لا؟ ها قد تزوّجا وهما الآن يعيشان بسعادة وحب، ثم أنتِ بالذات يا “يارا” لا يحقُّ لك إهانة العلكة المعلوكة على هذا النحو، من ذا الذي كان يلصقُ ورقة جدول الضرب أسفل المقعدِ في امتحان الرياضيات بواسطة العلكة المعلوكة؟

وماذا بشأن درجات القبو حيثُ يسكنُ ذلك العجوز السّمجُ؟ من التي ـ إلى الآن ـ لا تعودُ إلى المنزل دون أن تبصق علكتها التي ظلت تعلكُ بها اليوم بأكمله على درجات القبو انتقاماً من دمه الثقيلِ وتطفلاته وحِشريّته؟

وقفلُ المفتاح الذي حشوتِه علكاً معلوكاً، نعم …أخيراً، قفلٌ كان “يعلكُ”، وآخر يفتحُ فمه الآن لأسنان المفتاح كي تدور فيه، لقد عادت “تمارة”.

-“ما أجمله عليك يا يارا! سوف تكتسحين الحفل جمالاً وأنوثةً”

-“ولكن ألا ترين كم هو معلوك؟ أكنتِ تضعينه في خزانة أم في فكِّ حيوان مفترسٍ؟”

– “لا شيء معلوكَ هنا إلا عقلك، البارحة كويتُه بيدي، لا توجدُ تجعيدةٌ واحدةٌ فيه”

-“ماذا؟ ما الذي تقولينه؟ أية مكواةٍ ملعونة تلك التي تمتلكينها؟ ألا ترين حاله المزرية هذه؟ تعالي…”

أمسكتُ بيدها وسحبتُها إلى مرآة المدخل الطويلة:

-“هل هناك خيوطٌ أملس من هذه الخيوط؟”

-” ولله إنك قد عميتِ في عمر صغير يا تمارة”

-” يا حمقاء، ألا ترين!”…….

**********

بهلعٍ كبير تصرخ “لولو” مستنجدةً بأمي المشغولة في المطبخ وكأنها رأت عفريتاً، تقتحمُ أمي المكانَ مهرولةً إلى حيث أقف أمام مرآة المدخل، تحتضنني بقوة وهي تبكي:

“توقفي عن لومِ نفسك يا بنتي، ما حدث ذلك اليوم ليس ذنبك، هيّا اذهبي واخلعي الفستان، أم نسيتِ أنه لتمارة؟!”

تبعدني عنها قليلاً وهي تبتسمُ بعينين تختنقان حزناً ثم تعود إلى ضمّي، أما أنا فأنظر إلى نفسي في المرآة، المفروض أنها تعكسُ فتاةً بين ذراعي أمها، لكنني لم أرَ إلا علكةً معلوكةً ضخمةً تزداد انكماشاً كلما ضغطت عليها امرأة مفجوعة بابنة ماتت عندما كانت متوجهةً إلى المصبغة تحت براثن سيارة، وبأخرى توقفت ذاكرتها عند ذلك اليوم حين انتهت المشادة مع أختها بأن رضخت الأخيرةُ لعنادها بشأن الفستان المعلوك فأخذته إلى المصبغة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن رغد جديد

رغد جديد
كاتبة قصة قصيرة من سورية، طالبة ماجستير لغة عربية.

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *