كنت أقف على مقربةٍ من الشّاعر الكبير مريد البرغوثي حين سمعته يقول لبعض من تجمهروا حوله متسائلين عن سرّ غيابه: «كنت ساكتاً، لا قدرة لي على الكلام».
رغم أنّ عبارة شاعر فلسطين تلك أصابتني بمقتلٍ، ليس لأنّ صمت الكبار موجعٌ فحسب، بل لأنّ شاعراً يسكت وأصحاب الإنشاء اللغوي الكثر لا يسكتون، إلا أنّني وجدت في تلك العبارة بعض العزاء لصمتي الطّويل. الصّمت الذي كنت أطرح خلاله الكثير من الأسئلة لجلدِّ الذّات وحثّها على الإبداع انطلاقاً من قناعةٍ قديمةٍ بالقلم وقدرته على صنع الجّمال في كلّ بيئةٍ مهما كثرت فيها القذارة.
ترسّخت تلك القناعة منذ زمنٍ بعيد. ولا أبالغ إذا ما قلت منذ المرحلة الابتدائيّة، حيث كنت أكتب يوميّاتي الدّراسيّة واصفاً الطريق من وإلى المدرسة ببراءة طفلٍ جاءه حبّ الكتابة من السّماء، إذ لم يكن ثمّة كتابٌ واحدٌ في بيتنا سوى القرآن.
في الإعداديّة، أذكر جيداً كيف استطعت تحويل الحزن في عينيّ فتاةٍ أحببتها إلى فرح ٍبعدما التقينا في الطّريق إلى المدرسة، وكان المطر يهطل بغزارةٍ جعلت الشّارع خالياً تماماً من المارّة. قالت: كنت أريد أن أوثّق هذهِ اللحظة إلى الأبد. لكنني، لسوء الحظِّ، لا أمتلك كاميرا.
لم أجد منقذاً أمام حسرتها سوى أن وثّقتها بالكتابة، فرحت أسرد تفاصيل ذلك اللقاء بحماسة المراهق الواثق بقدرة القلم على الخلق و تثبيت اللحظة بدقّة مصوِّر. وقد نتج عن ذلك، بعد أيامٍ، كتابة عشر صفحاتٍ لوصف لقاءٍ لم يتجاوز العشر دقائق.
ولا شكّ أن تلك القناعة القديمة هي توأمي بكلّ ما تعنيه كلمة توأمٍ من معنى، إذ نشأنا معاً و كبرنا معاً. و لكنّني لا أعتقد أنّنا سنموت معاً، فثمّة بوادر موتٍ مبكّرٍ سبقتني إليها. ولذلك كنت أطرح الأسئلة دائماً، لماذا يصمت الكاتب؟ ولماذا يبدو منعزلاً عن قضايا أمّته المصيريّة؟!
لا أظنني غاليت في توقّعاتي يوم ظننت أنّ الكتابة هي وسيلتي الوحيدة للتّعبير عن دواخلي. ولست ممن يشتكي الواقع أو يتعالى عليه، فأنا، شئت أم أبيت، جزءٌ من هذا الواقع. لكنّني أكذب إذا ما ادّعيت أنني كنت قد هيّأت نفسي لتحولاته الدّراماتيكية الغريبة هذهِ، أو أنني تنبّأت بهذا الشّكل الموحش الذي صار عليه اليوم. لا أعرف إن كانت هذهِ الأيّام التي نعيشها اليوم هي الجّحيم بعينه أم لا، ولكنّني واثق أنّها محسومةٌ من أيّامه لاحقاً.
لم يعد الجّمال جوهر العالم من حولنا، بل القذارة هي الجّوهر.
والكره جوهرٌ والحبّ استثناء.
والجّهل جوهرٌ والمعرفة استثناء.
والغوغائيّة جوهرٌ والعقلانيّة استثناء.
والدوغمائيّة جوهرٌ والانفتاح استثناء.
وأمام كلّ هذهِ المآسي التي تسلّلت إلى أرواحنا وشوّهت كلّ جمالٍ فينا، غدا الصّمت أكبر جوهرٍ والكتابة أكبر استثناء.!
ليس أصعب على الكاتب من أن يصل إلى حدٍّ لا يؤمن فيه بقدرة القلم على التّغيير، وإن كان تغييراً بسيطاً، وليس أصعب عليه من أن يستبدل الكتابة بالصّمت. لكنّ الأصعب من كلّ ذلك، أن يأتي هذا اليأس بعد عمرٍ طويلٍ من الثّقة.
احسنت صديقي إبراهيم .
أتمنى لك كل التوفيق والمزيد من العطاء .