إنَّ مشكلة النّفور التي تربطني بنصوصي بعد نشرها وخروجها عن سيطرتي تتعبني كثيراً، على الرغم من الإثناء الذي أتلقّاه على الدّوام من القرّاء. لذلك صرت أتحاشى العودة إلى كلِّ ما كتبت، أتجنّبه تجنّباً يصل إلى المجافاة أحياناً.
رغم نزوعي في الكتابة إلى البساطة، بساطة السّرد دون تكلّفٍ، وتعرية روح النّص بخلع ثوب الحشو عنه بغية تسلّل الهواء إلى رئتيه، و طرح العوالق اللغويّة عنه ليقف شامخاً بذاته متضمّناً استعاراته وموسيقاه الدّاخلية كأعمدةٍ للوثوب. إلا أنَّ ذلك النّفور جعل البساطة تتجلّى في تمزيقي للمسوّدات أكثر منها في السّرد واختيار التّطعيم المناسب للّغة، التّطعيم في اللغة كالتّطعيم في الأشجار، زيادته قد تجعل الثّمر مشوَّهاً. لا أعرف إن كانت تنمُّ بساطة التّمزيق هذهِ عن شجاعةٍ أم عن تهوّر. أكاد أجزم أنَّ كلَّ قصّةٍ كتبتها هي قصّةٌ ثالثةٌ لقصّتين ممزّقتين (على الأقل) واجهتا السّجن المؤبّد في سلّة القمامة.
غابرييل غارسيا ماركيز الذي قال: «الكاتب الجّيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يُعرف بما يلقيه في سلّة المهملات» استعاد من القمامة واحدةً من أجمل قصصه القصيرة (مونولوج إيزابيل وهي ترى هطول المطر في ماكوندو).
هذه الحياة التي مُنحت في لحظةٍ حرجةٍ من انعدام الأمل لقّصةٍ كانت في طريقها الحتميّ إلى التّلاشي، جعلتني أخشى مسوّداتي كثيراً.. أخشى أن تُبعَث الرّوح فجأةً في ورقةٍ كانت مثار شكٍّ بالنّسبة لي، فتخرج ناقمةً عليّ لتبادلني الجّفاء بعد نشرها، لذا صرت أحرص على تمزيق المسوّدات تمزيقاً كاملاً كلّ ليلةٍ قبل النّوم لكي لا أفكّر في العودة إليها في الصّباح.
أليست الكتابة «لعبةً يوميّةً مع الموت» كما قال نزار قباني؟ وأنا أصدّق كلّ ما قاله شاعر دمشق. فمن ينازل الموت في الكتابة، عليه ألّا يتهاود مع ما علق بنصوصه من زوائد إنشائية من شأنها أن تقتل الإبداع في حكايته وتقتل قرّاءه مللاً، ثم تقتله هو، ككاتبٍ، في النّهاية.
لذا، وبكلّ جرأةٍ (أو طيشٍ) جعلتُ سلّة القمامة تحت طاولة الكتابة «ستاندراً» لاختبار النّص وقدرته على التّمرد والهرب.. من السلّة! آملاً في أن أحظى بنصوصٍ هاربةٍ ومتمرّدةٍ على الرّغم من بساطة شكلها. وهذهِ الصّرامة في التّعامل مع الأوراق هي الطّريقة الوحيدة (الحلّ المثالي!) لتقبّل نصوصي بعد نشرها.