التصدير: ” أكلّما تمرّد شيطان في إنسان، قامت له امرأة نبيّا؟” (محمود المسعدي)
“البرد لاذع هذه الليلة، والعاصفة متوحّشة، لعلّ هذا ما كدّر نومها”، خمّن هادي، حين عاودت زوجته مدّ ذراعها على نحو غريب، وكأنّها تحاول أن تقطف شيئا معلّقا في ظلمة الغرفة، ” لا بدّ أنّها قلقة على داليتها من أذرع الريح العابثة بأغصانها الفتيّة”، شجرة العنب الصغيرة، غرستها بيديها، وها سنتان مرّتا وهي لا تنفكّ ترعاها، تراقبها، وتنتظر بلهفة ظهور براعمها، ” لكم هو بطيء نموّها يا ربّي “، تقول شهلة كلّ يوم، ” قحط هنا، وقحط هناك”، وتشير بسبّابتها إلى بطنها الخاوي، ولكن يوم حدثت المعجزة ببطنها، أمسكت عن السؤال، وظلّت ترعى حلمها وهو ينمو في صمت، وشيء ما بداخلها يحدّثها بأنّ هذا الجنين قويّ، خلاف الذين سبقوه، بيد أنّ أمرا خفيّا ظلّ يطفو من حين إلى آخر بذهنها، فيبعد عنها السكينة.
ربت الهادي على كتفها وكرّر: “شهلة، واش بيك؟ “، حين انتبهت إليه، تدفّق صوتها خافتا قلقا: “يا هادي، كنت أرى حلما عجيبا، رأيت أنّ كرمتي الصغيرة أثمرت عنقود عنب كبير متدلّ شهيّ، وحين مددت يدي لقطف حبّة منه، أبلّ بها ريقي، وأطفئ بها عطشي إلى ثمار داليتي، امتدّت فجأة يد ثانية غريبة، تتعجّل لتصل إلى العنقود قبلي، وما أن وضعت يدها عليه، حتّى تحوّل لونه إلى الحمرة القانية المرعبة، إنّني أشعر بالخوف يا هادي”.
همس الهادي بصوت واثق ليبعد عنها الهواجس: “نامي يا عزيزتي وارتاحي، إنّها أضغاث أحلام، لابدّ أنّ صفير الريح قد أفزعك”، سكتت هنيهة، ثمّ ردّت:” ربّما، ولكن مع ذلك أنا أرغب في قليل من العنب، إنّي أشتهيه بقوّة يا هادي.” قالت ذلك ثمّ حطّت يدها برفق على بطنها، وحرّكتها برقّة، تهدهد بها حلمها النابض في أحشائها. سوّى زوجها الدثار الصوفيّ حولهما، ثمّ مهّد لها ذراعه لتحطّ رأسها الظريف عليها، فالتحمت به وانضوت كالعصفور تحت جناحه، وفي رفّة هدب غشّاها النوم. أمّا هو، فقد ران ليله، وأحكمت الهواجس الشراك حول قلبه، وبات ينوس بعينيه بين سقف الحجرة الموشك على التداعي، وبين جبل بطنها البارز من تحت الدثار، تتراءى له قشرته في عتمة الليل، هادئة حينا، وحينا متموّجة، حتى تكاد تنفلق عمّا بداخلها، الذي يرتدّ متراجعا إلى الداخل، فيفكّر في الرؤية العجيبة، ويحاول تأويلها، ثمّ يتذكّر شهوة الحامل، فيزفر قائلا: “وينو يا شهلة، لَعْنِب في الليالي؟ “
سكنت العاصفة، وأرسل الصبح ضوءا هشّا خافتا، بدأ ينبعث من خلف أشجار الصنوبر والفلّين والخرّوب التي ترصّع جبل السرج، وقف الهادي عند باب البيت مطلّا على مدخل الدار، كان الثلج قد غطّى بمعجزته البيضاء كلّ شيء، الأرضية، التربة، الحجارة، رؤوس الأشجار والأوراق والأغصان. وكانت ندف الثلج تنثال من السماء، متهادية، لامعة تحت ضوء الصبح، كأنّما لحاء فضّة، أو عطايا، تنثرها السماء، على أرض هذه القرية الفقيرة. ولكنّ المشهد رغم روعته وندرته، لم يكن من الترف في شيء، فهو لن يزيد مهمّة الهادي إلاّ عسرا، فلا بدّ له أن يتنقّل إلى مدينة القيروان، من أجل لقمة العيش، وأن يخلق عنقود العنب للحامل، أسرّ الهادي في نفسه: “ماذا لو عسرت ولادتها، أو خسرت، لا قدّر الله، للمرّة الرابعة جنينا لطالما انتظرناه؟” .
استدار إلى الداخل، فروّعه منظر زوجته المتسمّرة بزاوية الباب، بوجه يطفح حزنا، وعيون شاخصة بكرمة العنب الصغيرة، التي غطّاها الثلج بأكملها، ولفّها برداء أبيض مفزع كالكفن، ارتعب الهادي للفكرة، فذلك حتما، ما فكّرت به شهلة. وهو أدرى الناس بها، ستستيقظ حتما كلّ أحزانها، يُتمها المبكّر، وموت أجنّتها الثلاثة في بطنها بعد أشهر من الحمل، الواحد تلو الآخر، فإذا هي تصل في كلّ مرة إلى النبع ولا تشرب، حظّ موسوم بالفقد والموت، وهي لا تنفكّ تقاوم، وتنازع ذلك، ببثّ الحياة حولها في كلّ شيء، ولا تستسلم أبدا للخسارات.
نادي صوت من بعيد:” يا هادي، يا شهلة، يا مّْالي الدار”. إنّها حَدّي، جارته، ها قد هلّت كملاك الرحمة، تنقذ لسانه المعقود، “تفضّلي يا خالة حدّي “، قال مرحّبا، وأضاف:” صباح الخير، زارتنا البركة “، أقبلت العجوز تمشي الهوينى، وقد أثقلتها الزربيّة التي تتأبّطها، وأعياها المنديل الصوفيّ الغليظ الذي كان ينزلق في كلّ مرّة عن رأسها وكتفيها، فسارع الهادي إليها، يخفّف عنها حملها ويمسك بيدها، تنهّدت قائلة: “الركبة يا ولدي، خانتني، الله غالب، الرجوع للّه”، فردّ على الفور ملاطفا: “مازالت البركة يا خالة، لقد جئت في الوقت المناسب، شهلة أيضا أعدّت زربيّتها”.
ألقى الهادي بالزربيّتين على كتفه، وقبل أن ينصرف، مال إلى العجوز، وهمسا قال لها: “خالتي حدّي، أوصيك بشهلة، حالها لا يعجب، تعرفين أنّ الفترة صعبة، و”ربّي يُسْتُر ويْقدّرْ الخير، ويْوَصِّل بالسالم”، فتمتمت الخالة بكلام سكب في قلبه سكينة، لكم كان في حاجة إليها.
كان للحقيقة، أمر التنقّل إلى المدينة، أشبه بالمستحيل، فالثنايا مسدودة بالثلوج، والجليد الذي تأثّر بفعل الشمس جعل الأرض زلقة ومحفوفة بالخطر، ولكن، أنّى للهادي أن يتراجع أو يتراخى، إنّه في أشدّ الحاجة إلى المال، فالولادة وشيكة، وسيظطرّ للانقطاع عن العمل لأيّام بسبب ذلك، فقط، ليت زوجته تلد بالسلامة، ويرى مولودهما النور، ويعمر هذا البيت بالفرحة الموعودة. “وعنقود العنب، كيف السبيل إليه؟ ” تساءل الهادي حائرا، فتذكّر “مدام” سميرة، تلك السيّدة الكريمة، إنّها لن تردّه لو أطلعها على السبب، فلطالما فكّت ضيقه في مناسبات عديدة.
ظلّ ساعات ثلاثا، وهو ينتظر على قارعة الطريق، قبل أن ينتشله نقل ريفيّ، كان قد ازدحم بالقرويّين…
كان في غداته، متعب النفس، كثير الهواجس، ومثقل اليدين من عبء الزربيّتين، وذلك على خلاف حاله عند رواحه في آخر النهار، فلقد كان طيّب المزاج، ولا يشعر أبدا بثقل ما يحمل من أدباش وحلوى ولعب، بل كان يحسّ، بأنّ أجنحة قد نبتت له، وبدأت تنمو، وتستعجل التحليق به إلى شهلته الحبيبة، فلكم كان يتوق لرؤية بريق الفرحة في عينيها، وإلى ثغرها وهو يرسم هلاله المبتسم، كان يكفي أن يلمح ذلك في وجهها، حتّى يتحوّل قلبه إلى فردوس من النعيم.
كان الهادي سعيدا رغم جسمه المنهك، فما كان يومه سهلا، بين الطرقات الوعرة وطابور ديوان الصناعات التقليديّة، ومروره بمنزل السيدة سميرة.
“يا شهلة، لك أن تفرحي يا الغالية، لقد شهد لك ديوان الصناعات التقليديّة بجودة زربيّتك، وبكمال عُقدها وغٌرزها، وأكّدوا ذلك بمنحك طابع الجودة، وشموا به قفا بساطك القيروانيّ الجميل”، قال لها ذلك بمرح غامر، ثمّ أضاف يستحثّها، وقد رأى الفضول في عينيها: “هيّا هيّا، افتحي الأكياس يا شهلة، افتحيها وقولي فقط “يا ربّ”. كادت شهلة تطير من الفرح، فملابس الرضيع طيّرت عقلها، وأثارت دموعها، وأرجفت قلبها رقّة ولهفا، وهي تضمّها إلى ثدييها المحتقنين، الذين كاد يقطر لبنهما شوقا للمولود المنتظر.
ولكنّ حيرة مفاجئة ارتسمت على وجهها بغتة، سألت وهي تمسح بظاهر كفّها دموع الفرحة: “يا هادي، هل صرفت كلّ المبلغ؟ أنسيت أن تترك قدرا لمصاريف الولادة؟” . فأجابها باشّا: “أبدا أبدا يا شهلة، كلّ المال موجود والحمد للّه، بركات أناملك يا الحبيبة”. فردّت في قلق: “إذا لم تكن قد صرفت من ثمن بيع الزربيّة، فبماذا شريت كلّ هذه الهدايا الثمينة؟ بماذا؟”، أجابها محاولا تهدئتها: “حسبك يا شهلة، لم القلق، أخبرتك بأنّ المال موجود”، ثمّ أخرج رزمة من الأوراق النقديّة دليلا على صدق كلامه، بيد أنّها ازدادت قلقا، فحدسها يخبرها بشيء ما مريب، قالت بشدّة: “قل يا هادي، من أين لك بكلّ هذا؟”
استمعت إليه وهو يروي ما كان من تفاصيل زيارته لـ”مدام سميرة”، بوجه ممتقع فزع، وما أن فرغ من كلامه حتّى نطّت واقفة، وشرعت تنفض عنها تلك الهدايا المسمومة، وتردّها بعنف وفوضى إلى أكياسها، ثمّ انبرت له تخاصمه، وقد استيقظت القطّة البرّية في داخلها:” كيف تقبل يا هادي هداياها، كيف؟ أنسيت أنّها كلّما بلغها حملي، تغرقك بالهبات، وتبالغ في خوض سيرة عقمها لتستدرّ عطفك؟ ألم تعدك بعمل ومأوى، إن أنت منحتها طفلنا؟ هل نسيت؟ كيف تنسى يا هادي، كيف؟ هل تقدّر، بأنّني في كلّ مرّة كنت أفقد أجنّتي بسببك”، ” بسببي يا شهلة؟” سأل والدهش يملأ عينيه، ردّت بعنف وقسوة:” نعم، بسببك، بسبب الرعب الذي أسكنتنيه، الرعب من سرقة طفلي، والتفريط في فلذة كبدي، بسبب أنّك رخو ومتردّد، وبلا كلمة حاسمة”، ثمّ رفعت سبّابتها القصيرة في وجهه، وقالت وقد احتقن وجهها:” اسمع يا هادي، أنا مهما اشتدّ بي الفقر والجوع، وابتليت بكلّ مصائب الدنيا وعللها، لن أفرّط يوما في شعرة من أولادي، أموت جوعا، ولا آكل يوما من ثدييّ”، ونطّت القطّة البريّة، تدفع بطنها ولا تشعر بثقله، وغادرت إلى مدخل الدار. تتبّع الهادي خطاها مرتعبا، فرآها تمسك بقادوم، وتتّجه صوب شجرة العنب، وتهوي على جذوعها، تكسّرها بقسوة، وتسحقها وهي تردّد: “أوليست هذه الشجرة هديّتها؟ أليست سيّدتك الفاضلة، لِلّة سميرة، تنظر بعين الطمع إلى ثمرها؟ ها أنا أسحقها يا هادي، وأسحق معها طمعها هي، وارتخاءك أنت، ولن تُقطف عناقيدي بغير يديّ هاتين، شجرتها هذه سوف تأكلها الأرض التي أنبتتها، أمّا شجري وثمري فهو لي، في بطني، ولن يقطف ثمره، ويرعى نعمته غيري، وطفلي هذا ــ وأشارت إلى بطنها المنتفخ بسبّابتها التي أعادت رفعها قاب قوسين من بؤبؤ عين زوجها، سيعيش يا هادي، أقسم بأنّه سيعيش ويكبر في حضني”، وما أن ألقت بالقادوم حتى برقت عيناها، وصرخت وهي تمسك ببطنها: “المخاض، آآآه”، فصاح الهادي بأعلى صوته: “حدّي، خالة حدّي، اجرِي لي”.
القراءة السريعة للقصة تعطي انطباع عن لغة راقية وسردية مركزة… أتحدث القصة عن إشكالية الولادة.. ولعل ولادة الشعوب.. أي ولا مستقبل جديد في هذا ا العالم المتغير…
أبدعت القاصة… سلمت مبدعة… السيدة لمياء بوكيل