د. لبنى خشة |
شدني وأنا أقرأ يوماً لأدونيس قوله: “إنّ القارئ الحقيقي كالشاعر الحقيقي لا يُعنى بموضوع القصيدة، وإنّما يعنى بحضورها كشكل تعبيري، أعني صيغة الرؤيا”. على القارئ الجيد أن يتوقف عن طرح السؤال القديم: ما معنى هذه القصيدة؟ وما موضوعها؟ لكنه يسأل أسئلة جديدة، ماذا تطرح عليّ القصيدة من الأسئلة؟ وماذا تفتح أمامي من آفاق؟ وهذا هو الشعر الحقيقي، وما يشير إلى الشعر الحقيقي، لا يستنفذ إلى أنّ فيه كثافة وغموضا وإلى أنّه يجب تذوقه كما هو، بما هو لذاته..كما نتذوق الليل”. هنا وجدتني حائرة‼ كيف نتذوق الليل؟ أمن سكونه؟ أم من بريق نجومه؟ أم من ظلامه؟ أم من رهبته؟ أم من وحشة صمته؟
أسئلة لم نكن نطرحها ونحن نقرأ الشعر القديم، ونقرأ لنقاد جالسوا الشعر القديم، بدءا من فك إعجام اللفظ أو الظفر بالدلالة التي يحملها المعنى الذي يتضمنها أو الإعجاب بلطائف الفن.لم نكن نسأل هذه الأسئلة ونحن نحاور قصائد تشابهت قراءتها على اختلاف أغراضها، وعلى اختلاف أصحابها، كيف نقرأ الشعر الحديث إذا ابتعدنا عن المعنى والموضوع التي ألف النقد أن يقف عنده؟ كيف يرى القارئ القصيدة الحديثة؟ هذا الأخير الذي تعوّد الاستماع حتى كان على الشعر أن يكون مطربا، وقد جاء الشعر كذلك في معظم الأحيان نوعا خاصا من الغناء ليسهل حفظه، لكن الزمن غير الزمن والأشخاص غير الأشخاص، فلمّا كان الشاعر مُتكسّبًا بشعره، صار الآن مدافعا عن فكرته وعن شعره بشعره. “وليس ثمة أصعب من الحديث عن النص المعاصر، لأنّه يدعو إلى للتطرق إلى خصوصية فكرية وثقافية وأدبية امتزجت بالراهن، والحديث عنه يقود كذلك إلى الحديث عن جمالياته ومميّزاته ورمزية شكّلت جملهُ، وفي صفحات هذه الملاحقة النقدية، التي هيّأت أرضية من التعددية الثقافية الفكرية، من خلال تنوع أفكار النصوص، من أجل الانفتاح الذي ليس آخره مشهد النار والنور الذي غيّر جغرافية المشهد الشعري من الورق إلى الضوء والورق معا”[1].
إنّ الواقع الذي تغيّر تغيّرا عاما فرض على القلم أن يخطّ نصا جديدا…نص هو ابن المرحلة، يؤسّس ويجرب ويكتب أوجاعها في الوقت نفسه، “فخرج النص المعاصر عن حدود الشكل الظاهر لنمط الكتابة السابقة، بحيث استنجز بوفرة الوعي واللغة والصورة نصا حقيقيا متميزا مقتفيا أثر بعض التجارب الأصلية، بالإضافة على الاطلاع على المنجز الجديد في خارطة المشهد النصي العالمي، فقدمت النصوص نفسها بوجوه مختلفة إلى المتلقي تثير قلقه ورعبه؛ لأنها نسجت بشكل يستفزّ لغة الداخل، ويجاهر بلغة الخارج في رمزية فائقة السبك معتمدة التقنيات الفنية المحدثة في صناعة النص، كما شكلت طبيعة المكان والواقع المتنوع جمالا وقسوة رافدا حقيقيا، لذلك النص”[2].
لذلك سأحاول التقرب من نصوص الشاعر التونسي نصر سامي من خلال ديوانه سفر البوعزيزي، وهو مجموعة من النصوص الشعرية المعاصرة التي جاءت متباينة في تجاربها من حيث الشكل الفني، والقالب الهيكلي لشعريتها، واختلاف المعاني والمضامين، بقراءة للمعجم الشعري والهيكل البنائيّ لتلك النصوص. وتبقى هذه القراءة مجرد مقاربة ذوقية ومحاولة للإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به وهو النص الشعري الزئبقي الطبع، المتمنّع دوما عن كلّ مقاربة.
من روح القصيدة: من رحم الواقع إلى روح القصيدة كتب الشاعر نصر سامي يخلد الرمز الذي ألهب عزة تونس فكان كلّ حرف إهداء له ووسام شرف لمن رفع راية الشرف والعزة.يقول الشاعر: “سوف تصعد من رمادي الشمس، أومن بالقصيدة ليس بالجلاد، وأعمل لا أطالب بالحياد، ولا أسابق مثل غيري طواحين الرياح ولا الرياح مثل آلاف الجياد، حاولت..تلك حقيقتي، صعّرت خدّي، بل ضربت وما هزمت.. هزمتهم بحقيقتي”.”سوف تصعد من رمادي الشمس”.
هي جملة تحملنا إلى أمل جديد يشبه خيالا أو خرافة العنقاء التي تولد من رمادها إذا ضربت بجناحيها. فكان جناحاها من نار، تحترق ليولد من رمادها مخلوق جديد… تجدد روحها تجديدا ذاتيا.”سوف تصعد من رمادي الشمس”…هو الأمل الذي تقف عنده الروح كي تنطلق من جديد كي تبدد ظلام الظلم ولوعة الذي احترق كي ينير فجرا وسماء تتربع الشمس في كبدها، شمس تكشف خبايا الظلام وتهتك ستر ما يخفيه الظلام من تجاوزات.ويقول:
“أضأت ليلهم بلحمي.. لم تكن نار إبراهيم بردا، لم تزل عني سوى جسدي، وها أحدّق من رمادي في البعيد”.
ذاك الذي رماه القهر إلى نار لم تكن كنار إبراهيم.. أضاء ليل الظلم وبدّد الظلام لتشرق شمس الأمل، لتزيل العفن ورائحة العفن الذي نما وتكاثر في صمت الليل الذي ستر ضبابية وغموضا كان يخيم في سكون الذل دهرا.يقول نصر سامي:”حين تكون مضاء لا تخاف ولا تحزن، لا تحب ولا تكره (…) لا تفرح ولا تتألم (…) لا تمرض ولا تبرأ (…) في الضوء تنمو العطالة، يصبح لكل برق زمانه الطويل ولكل فعل مكانه العريض ولكل لحن آلته الواضحة (…) في الضوء يكون الخسران والتفريط والانسحاب من العالم”[3].
لكنّ الظلام الذي كبّل الأغلبية تحت قيد القهر، فكان لابدّ للقيد أن ينكسر كما قال أبو القاسم الشابي:
ولا بدّ لليل أن ينجلي/ولابد للقيد أن ينكسر
هكذا أرادها قصيدة ثائرة وسفرا مُهدى إلى روح الإنسان الذّي ألهب العزة وأحرق نار الظلم وحطّم كل القيود لينتفض الشعب بعده كي يكتب تاريخا جديدا. يقول نصر سامي في إهداء قصيدة البراق:”يقف محمد البوعزيزي أمام مبنى الولاية، يتخيّل للحظة وهو يقف تحت الشمس أمام عربته أنّ له حصانا، يفرك عينيه. يتأكد أن الحصان أمامه حقا…”[4].
رغم بساطة الحلم إلا أنّ الواقع شبه مستحيل..حين تكون أبسط الحقوق التي يجب أن تتوفر لأي شخص حلما بعيد المنال، يحاول أن يتخيله حلما جميلا..يفرك عينيه يتأكد أن الحصان أمامه حقا، فيخاطبه قائلا:”اللعبة اكتملت. أعدني يا حصاني للشعوب لكي أرتّب أولوياتي مع الغيمات والسمرات وأحجار الطريق. وردّني لطفولتي، أتأمّلُ الغدران، وألقط الزيتون خلف الطير.. يضيع نجم كلّ ثانية هنا ويموت برق، كيف لي أن أفهم الطاغوت أنّ الوقت فات، وكيف لي أن أقنع الظلمات أن الخوف مات ولن يعود”[5].
فجسّد بنية الحلم التي حملته إلى أبعاد يمكن أن يلملمها ويرتب أولوياته لها ومن أجلها؛ الغيمات، السمرات، أحجار الطريق، الطفولة التي أراد أن يعود إليها ليتأملّ الغدران ويلقط الزيتون..لأن واقعا اختزل الممكن وأعدم جمالياته ليصبح مستحيلا لا يمكن حتى أن يجعله حلما، بالرغم من أنّه يصور بنية شاردة لأمل هوأبعد ما يكون للواقع،أو رغبة مضمرة يحاول أن يتدارك من خلالها أو يستدرك حيرة السؤال حين يقول: “كيف لي أن أفهم الطاغوت؟” ليجيب عن سؤاله: “إن الوقت فات”. “وكيف لي أن أقنع الظلمات أن الخوف مات ولن يعود؟”. وهنا يبقي السؤال مفتوحا بلا جواب يستدرك حيرته..
بنية القصيدة:
“ولسنا نعني ببناء القصيدة هنا، مستوى الشكل الخارجي من ألفاظ ووزن وقافية، مثلما كان شائعا في النقد العربي القديم، كما أننا لا نقصد به مفهوم البنية، التي اشتقت من البنيوية، إنما الذي نعنيه هو الإطار الشعري الذي ظهرت به القصيدة والذي يضم مجموعة من الأصوات والكلمات، وما تثيره حركتها من إيقاع وما يخلّفه تفاعلها من صور ورؤى ومواقف داخل أوضاع زمانية ومكانية محددة(…) ولقد كان من أهم مظاهر التطور تغيّر مفهوم الشعر نفسه، فلم يعد مجرد كلام موزون مقفى يدل على معنى خاضع لمقتضيات الأحوال، بل أصبح إطارا يلتئم فيه اللفظ والمعنى معا، لا أسبقية لأحدهما على الآخر،(…) بل لقد اقترن بأشياء غير محددة، كالكشف والمعرفة والذات والحلم والباطن وغيرها من المفاهيم التي هي نتاج التأثر الواضح بالفلسفات الحديثة”[6]. كما تأثرت القصيدة الحديثة وتحركت داخل معاناة التجريب والأوضاع الراهنة التي ألبستها صيغا مختلفة، “فالشعر كظاهرة في حياة الإنسان يبدأ بسيطا، كغيره، ثمّ يتعقّد تدريجيا كحياة الإنسان الظاهرة نفسها، فيتضاعف مضمونا من ناحية المعاني وأبعادها اتساعا وعمقا، ويتكاثف شكلا من ناحية الأساليب وجودتها لغة وصياغة، من ناحية انتقاء الألفاظ ودقة رصفها ورقتها ورتابة موسيقاها”[7]. وإذا كانت مفاهيم النقد الأدبي الحديث ترفض التمييز بين شيئين مثل (المضمون) و(الصورة) في الشعر، وتأبى إلاّ أن تعدّهما شيئا واحدا لا يمكن تجزئته إلى إثنين يجب أن نعود إلى المفهوم القديم فنجزئ القصيدة إلى عناصرها الخارجية لندرس العلاقات الخفية التي تربط هذه العناصر ببعضها حتى تجعل منها ذلك النسيج الحيّ المتكامل الذي هو القصيدة. وهكذا نجد أنّنا نبدأ بتكبير القصيدة إلى عناصرها الرّئيسة التي لا تزيد في نظرنا إلى أربعة:
-الموضوع: وهو المادة الخام الّتي تقدّمها القصيدة.
-الهيكل: وهو الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع.
-التّفاصيل: وهي الأساليب التّعبيرية التي يملأ بها الشاعر الفجوات في أضلع الهيكل.
-الوزن: هو الهيكل الموسيقي الذي يختاره الشاعر لعرض الهيكل.
1- الموضوع:
هو من جهة نظر الفن أبسط عناصر القصيدة، لأنه في ذاته قادر على أن يصنع قصيدة، مهما تناول من شؤون الحياة، إنه مجرّد موضوع خام، فليس فيه خصائص تدل الشاعر على طريقة يعالجه بها، وإنما هو أشبه بطينة في يد النحات، يستطيع أن يصنع بها ما يشاء. إن القصيدة ليست كامنة في الموضوع، وإن كان هذا لا ينفي أن من الممكن أن نصوغ، من أي موضوع عددا لا نهاية له من القصائد، وهذا يجعل من الضروري أن نقرّر أن الموضوع شيء غير القصيدة ولا دخل له في تكوينها[8]. وإنما يصبح الموضوع هاما، ويستحقّ الالتفات في اللحظة التي يقرّر فيها الشاعر أن يختاره لقصيدته فهو إذّاك يوجّه الهيكل ومعه، وأول شرط في الموضوع أن يكون واضحا مجدّدا، لا كموضوعات تلك القصائد التّي تدور وتدور فلا يخرج منها القارئ بطائل، ومن هذا الصنف تلك القصائد التّي يكون موضوعها عاما يشمل جوانب واسعة لا حدود لها من الأفكار والتّصوّرات وهو صنف يتخلّص منه الشاعر عندما يصنع له عناوين مثل (خواطر) أو (تأملات) أو (رباعيات)، مثل هذه القصائد تستند في واقع الأمر، إلى عقيدة واهمة من الشاعر أن الموضوع وحده يكفي لإنشاء قصيدة، ومادامت القصيدة تعالج أفكارا مفيدة ذات طلاوة وبصيرة فهي تبرر وجودها تبريرا تاما، وليس هذا مقبولا من وجهة نظر الشعر، وإنما ينبغي أن تكون القصيدة موحدة مبنية، لا أن تمتلئ بمادة تكفي لإنشاء عشرين قصيدة.
وقد تباينت المواضيع في سفر البوعزيزي للشاعر نصر سامي بين القصائد التي رسمت الحلم المعلّق عند أبواب السماء حين ترنم بوحهُ بين النبض والحنين في كثير من القصائد نذكر منها: “تذكرت البداية”، و”أعطي جسدي لحرير الليل”، و”لدينا حلم” وغيرها من القصائد التي رسمت سريالية جميلة مازج فيها بين ألوان دافئة، كان الحرف المهموس سيّدها، وكأنّ الشاعر كان يلقي تعويذة سحر ليستحضر أرواح الورد وعبق الحرف الذي ترجم وجسد كل إحساس جميل.ومن جميل القصائد التي ترجمت حنين الشاعر قصيدة “البيت” التّي لفّها الحنين منذ بدايتها إلى آخر نقطة.. وأقل ما يقال عنها هو حنين لكلّ شبر من ذكرى الطفولة التي تباغت لحظات الصمت الذي يحلّق باتجاه عكسي إلى زمن كنا نجد حضنا دافئا وحنونا وصادقا نرتمي به و نرمي كل جرح يسكننا.
ولقد امتزجت مواضيع القصائد بين الرمز الديني في قصيدة:”إسماعيل” و”خمسون نجما يا أبي” و”المدثر”، و”مسيح الليل” و”فوضى على باب القيامة” وغيرها من القصائد التي حوّر بها الشاعر الرمز الديني كإسماعيل لحظة أراد إبراهيم ذبحه، ليجعل الشاعر من نفسه إسماعيل الرمز الذي تم فداؤه بضوء عظيم..و”قصيدة خمسون نجما يا أبي” التي ذكر بها رمزا قصة يوسف، وكان في كلّ مرة يردد جملة: “إخوتي لا يحبونني يا أبي”، بطريقة مميزة و نسق يشدّ الأسماع.وامتزجت القصائد أيضا بين الرمز التاريخي في “جلجامش”، و”أغرقتم الفرعون” و”تحت جدارية ابن خلدون”، وفي “هكذا حدث بروميثيوس”وغيرها.. والرمز الأسطوري في “سيعود يوما طائر فينيق”، والرمز الثوري في قصيدة “الجميلة لا تموت”، و”نشيد السلام”، و”ثورة الأحرار”، و”يصير نجما خلف ثورته”، و”البراق” و”الخطاب الأخير لمحمد البوعزيزي”.
2- الهيكل:
إن القصيدة ليست موضوعا وحسب وإنما هي موضوع مبنى في هيكل، لذلك فلا ريب في أن الهيكل هو أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثرا فيها ووظيفته الكبرى أن يوحدها ويمنعها من الانتشار والانفلات ويلمّها داخل حاشية متميّزة ولا بدّ من الإشارة إلى أن الموضوع الواحد لا يفترض هيكلا معينا وإنما يحتمل أن يصاغ في مئات من الهياكل بحسب اتجاه الشاعر وقدراته الفنية التعبيرية، ومهما يكن فلا بدّ لكل هيكل جديد من أن يمتلك أربع صفات عامة هي التماسك والصلابة والكفاءة والتعادل.
ـ التماسك: نقصد به أن تكون النسب بين القيم العاطفية والفكرية متوازنة متناسقة، فلا يتناول الشاعر لفتة في الإطار ويفصلها تفصيلا يجعل اللفتة التالية تبدو ضئيلة القيمة أو خارجة عن نطاق الإطار، (تماسك المشاهد المذكورة في القصيدة الواحدة مثل قصيدة البيت في سفر البوعزيزي، (التي أدرج فيها نصر سامي في المشهد الأوّل كلّ صفات بيت الأهل بدءًا من جدرانه إلى الجير الأبيض إلى أشجار الزيتون، ثمّ تقدّم في عجلة إلى المشاهد الثّلاثة الباقية، فذكر كل أبنية الحلم والألم والحنين حين يقول: “وأذكر ذاك النشيد الذي مزقته الأعاصير، تحضرني صورتي وأنا أتمدّد في الظلّ،أستقطر الضوء من جسدي، وأضيء النجوم”[9].
ومن ثمّ قيمتها الدّراماتيكية المشهد الرّابع حين يقول: “أبغي أن أمزّق لحم روحي… أأنا جلجامش أم أنكيدو”[10].
ليختمها في الأخير بقوله:”في بيت الأهلين هنا أتمنى نفسي فجرا، كي أتمدد في الجدران، وكتانا كي يلبسني الأهل، أو ماء يتفتّق فيّ النسغ، ويولد فيّ الضوء، وتملأ أمطاري الأكوان”[11].
فبدأها ببنية الحنين، ليختمها ببنية الحلم دون أن يهمل البنية الدرامية كلما تذكر ما يحزّ في نفسه من ألم، وأكثر ما يميّزها بنية التساؤل التي عكست حيرة الشاعر وأحدثت ارتباكا في الحروف لكنها دعمت بنية القصيدة وجمال تماسك الهيكل.وبتماسك الهيكل تستمر كلّ القصيدة الّتي تمتاز بما فيها من صور وانفعالات ووصف ملموس يحسّه القارئ عبر المشاهد المتلاحقة.
ـ الصّلابة: نقصد بها أن يكون هيكل القصيدة العامّ متميّزا عن التفاصيل الّتي يستعملها الشاعر للتلوين العاطفي والتميّز الفكري، وتكبر قيمة هذه الصّفة في الهيكل الهرمي كما سيأتي (التّشبيهات والأحاسيس ينبغي أن تكون تفاصيل سياقية عارضة يحرص الشاعر على كبح جماحها بحيث لا تضيع حدود الخطّ الأساسي في الهيكل، ويتضمّن هذا أنّ الصور والعواطف ينبغي ألاّ تزيد عمّا يحتاج إليه الهيكل، وأيّ زيادة تفقد القصيدة قيمتها الجمالية.[12]وإن تحدثنا عن صلابة القصائد في السفر فلن نحصيها لكثرة الصورة التي ميّزت الشاعر فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله:”تذكرت البداية يوم كنامعا/ قبل ميلاد الضياء/ أسقي ريقها للفجر ماءً/ ويظمأ مرتين لغير ماء”[13]
ويقول أيضا:”أكتب كي أزيد الوقت طولا/ أكتب كي أمدّد في الهواء/ إن كان الغناء حمام قوم/ يمرّ بهم على شجر الضياء/ أنا ثمر الضياء وتلك ريحي/ أداورها يمينا أو ورائي/ وأرسلها فراشا أو حماما/ لغيري أو عيونا للبكاء”[14].
ويقول في قصيدة فوضى على باب القيامة:”أدير الكون لا أدري لماذا؟/ وخمري ليس يكفيني ملاذا/ أودع في الشموس البيض عمري/ وأجمعه نجوما أو رذاذا”[15].
ـ الكفاءة: نعني بها أن يحتوي الهيكل على كلّ ما يحتاج إليه لتكوين وحدة كاملة تتضمّن في داخلها الضرورة جميعا دون أن يحتاج قارؤها إلى معلومات خارجية تساعده على الفهم، ويتضمن هذا معنيين:
1-تكوّن لغة القصيدة عنصرا أساسيا في كفاءة الهيكل، فهي أداته الوحيدة، ولذلك ينبغي أن تحتوي على كلّ ما تحتاج إليه لكي تكون مفهومة، وهذا هو السبب في نفورنا اليوم من استعمال الألفاظ القاموسية غير المألوفة في لغة العصر، ذلك أنّ هذا يحتفظ بجزء من معنى القصيدة في خارجها في القاموس.وقد كانت لغة الشاعر غاية في الرقة كلما احتاجت القصيدة بموضوعها إلى رقة العاشق الذييحن إلى أمل بعيد وحلم خطّه من نار ونور عند حدود الشمس يزرعه في كلّ غيمة كي تمطره لحنا جميلا، يقول في قصيدته لدينا حلم: “في الحلم متسع ويكفينا الهواء/ لكي نصلي كلما نحتاج/ أرضا للحياة/ هنا مع أطيارنا../ وصغارنا وترابنا/ وهوائنا/ أرض بحجم قصيدة”[16].
ويقول في قصيدته أقسم جسمي على جسوم كثيرة:
“هل كنت وحدي والعواصف في دمي/ أستيقظ الأسلاف تحت ردائي/ هل جئت للدنيا بضوء راعش/ لأخاف من ريح الأذى الهوجاء./ ولا ترعى يد الصحراء في ترحالها سفني/ ولا يُعطي الزمان إلى يدي يده ولو بجفاء [17].
وكانت لغة الشاعر شديدة كلما احتاج إلى شدة الثائر فنراه يتحدث بحرقة العاشق إلى تونس الخضراء في قصيدته هكذا حدث برومثيوس التي أهداها على أبو القاسم الشابي يقول:”أسري وأعرج بالقصيدة تاركا/ قلبي هنا في تونس الخضراء/ …………/ ……………../ ماذا ترى في الضوء غير عمائي؟”
3-التّفاصيل:
ونعني بها التّشبهات والاستعارات والصّور الّتي يستعملها الشّاعر في القصيدة، إذ ينبغي أن تكون واضحة في حدود القصيدة لا أن تكون قيمتها ذاتية بحيث تأتي أهميّتها من مجرّد تعليق ذكريات الشاعر الشّخصيّة بها، وإنّما ينبغي أن يعتمد المعنى الكامل للقصيدة على القصيدة نفسها لا على شيء في نفس الشاعر،(لا مانع أن يدخل الشاعر من تفاصيله الأثيرة، ولكن على أن يمنح هذه التفاصيل قيمة فنية تتبع من الهيكل نفسه)[18]. أما التشبيهات والاستعارات فقد أبدع الشاعر في تخير الصورة، نذكر من قصيدته آخيل قوله:”أأنا المبشر بالألوهة؟أأنا هنا ذكرى رحيل لا يملّ الارتحال؟أأنا البقاء اللانهائيّ القديم؟أأنا صراخ الميتين وفرحة الأحياء؟(…) أأنا أسطورة أحيا هنا؟”[19].
ويقول في نفس القصيدة:”شواطئي سفني، وموجي الريح/ أسمعها تئنّ وتطرق الأبواب دون هدى..وحظي في يد القدر اللعوب”.
وللقصيدة عالم خاصّ منفصل عن عالم الشاعر، إنها كيان حيّ ينعزل عن مبدعه من اللّحظة الأولى الّتي يخطّ فيها على الورقة، وذلك هو الّذي يجعل الشّاعر مضطرّا للكفّ عن اعتبار تجاربه كافية في ذاتها لإبداع قصائده، فالشعر لا يعترف بأنّه قيمة عاطفية أو جماليّة في خارجه، ولابدّ لمن يريد أن يتغنى بمكان يحبه أو شخص يعزّه أن يجعل هذا الشّخص وذلك المكان حبيبا في داخل القصيدة نفسها بمختلف وسائل الفنّ المشروعة.
4-التّعادل أو الوزن:
هو آخر صفات بنية القصيدةالجيدة، فمقصده حصول التّوازن بين مختلف جهات الهيكل وقيام نسبة منطقية بين النقاط العليا فيه. والنقطة الختامية، وإنما يحصل التعادل على أساس خاتمة القصيدة، حيث يقوم توازن خفي ثابت بينهما وبين سياق القصيدة، فإذا كانت القصيدة تتناول موضوعا ساكنا كالنهر مثلا كما يلوح للشاعر في لحظة معينة، جاءت القصيدة تعاقب صور وانفعالات وأفكار متتالية ذات قيمة متساوية. وفي هذه الحالة تكون خاتمة القصيدة أقوى من سائرها حيث يقوم نوع من التعارض الخفي بين البيت الأخير وبقية الأبيات، أمّا حين تتناول القصيدة حادثا أو امتدادا زمنيا بكلمة أخرى، فإنّ الحركة تأتي من تعاقب الزّمن الّذي يستغرقه الحادث ويمرّ عبر القصيدة أمامنا، وفي هذه الحالة تكون الخاتمة متميّزة عن سائر القصيدة بأن توقف هذه الحركة عند نقطة منطقيّة وهي حالة يقوم فيها التّعارض بين الحركة الزّمنية في القصيدة والسكون في خاتمتها. ومن الأساليب الّتي قد يختتم بها الشّاعر قصيدته ما يقوم على أساس الإيقاع والموسيقى، كأن تكون القصيدة ذات مقطوعات متساوية الطّول رباعيّة أو أكثر، فيجعل المقطوعة الأخيرة ذات طول مختلف، والقصر أكثر تأثيرا في هذه الحالة.يقول في خاتمة قصيدته تذكرت البداية:
“أسقي ريقها للفجر ماء/ ويظمأ مرتين لغير ماء/ ويرشوني ويمنحني غيوما/ لأسعده وأمنحه شتائي”[20].
ويقول في قصيدته أقسم جسمي في جسوم كثيرة:
“في كلّ نبض فكرتي ممدودة/ لكنّني كالنقطتين بيائي/ أهوى/ فلا تمتدّ لي أسطورة جسدا/ ولا ترعى يد الصحراء في ترحالها سفني/ ولا يعطي الزمان يدي يده ولو بجفاء”[21].
ويقول في قصيدته أعطي جسدي لحرير الليل:”روحي نبع أساطير نابضة بالحب وصوتي نبع حياة”[22].
ويقول في قصيدته أهذا كلّ ما تعطيه لي الكلمات:”أنا ساكن في الوهم، محمول على خيل اللغات، ليس لي وطن سوى لغتي التي فجّجت بين ضلوعها، وملأت مسرحها بذاتي”[23].
ويقول في قصيدته فوضى على باب القيامة:”إنّ الكون فوضى على باب القيامة/ أيّ جدوى،/ وسهمي خاب مرات/ ولم يعرف إلى سّري نفاذا”[24].
أصناف الهياكل:
-الهيكل المسطح:
هو الّذي يخلو من الحركة والزّمن، ويصف المظهر الخارجي في تلك اللّحظة وما يتركه من أثر في نفسه، يصفها كما كانت في تلك اللّحظة الّتي رآها الشاعر فيها جامدة ثابتة في المكان.والهيكل المسطّح هي نظرة ذات ثلاثة أبعاد على حدّ تعبير الرّياضيين ينقصها البعد الرّابع الّذي تنشأ عنه الحركة الزّمنية، على أنّ القصيدة الّتي تخلو من الحركة بشكلها الزّمني لا تستطيع أن تستغني عن شكل آخر من أشكال الحركة يعرض لها ويبني كيانها ومن ثمّ فإنّ شاعر الهيكل المسطّح يلجأ عادة إلى أساليب أخرى يخلق بها الحركة فيسدّ الفراغ، وهو يصل إلى ذلك التّعويض باستعمال الصّور والتّشبيهات والعواطف، وبذلك يمدّ الموضوع السّاكن بلون ما من ألوان الحركة.
وهكذا نجد أنّ الشّاعر حين يجد أنّ بين يديه موضوعا جامدا مغلّفا بلحظة واحدة من لحظات الزّمن يلجأ إلى التّفجير عاطفيّا ويحيط موضوعه بشحنة مشاعر قويّة تعطي القصيدة نوعا من الحبكة المعوّضة[25]. ومن نماذج هذا الهيكل ما ذكره الشاعر في بداية السفر، أي البيان الشعري”المضاء والمعتم”حين كتب: “أستقطر الضوء من لحم الكلمات البارد (…) لماذا كنت أحفل بكلّ تلك الكلمات القذرة التي كان يعمّها الضوء؟ وتلك الأسنان القاطعة التي اسمها النور؟ وذلك الصدأ الذي يسميه الناس الحب؟ (…) الضوء..ذلك الون الأبيض كيف اهتممت بكتابته كل هذا الوقت؟ كيف أمضيت كل تلك السنوات في كتابة كتب كاملة عن امرأة واحدة وبيضاء؟ وعن قمر واحد أبيض؟ وعن سبع شجرات رسمتها أمي أمام البيت مثل وشم”[26].
ويجعل الشاعر شبه موازنة بين ما هو مضاء وما هو معتم، فيقول: “في الضوء لا مجال للفسق والإسراف والهوس والضجر والخوف والتجارب المشوشة (…) أما الدنيء والشائن والجبان والساحر والجنون فمحكوم عليه بالخفاء (…) لا نكاد نقف على وداعات نهارية في شعر الغزل وإنّما زمنه بداية الظلام أو الإصباح (…) وما كُتِب في الليل بعيدا عن الأضواء كثير جدا”.
ومن نماذج الهيكل المسطح أيضا، نص “البيت” الذي أهداه إلى محمد النجار، اعتمد الشاعر على الوصف من بداية النص إلى آخره بأدقّ التفاصيل الممكنة، لكنّ الصفة الغالبة التي أمعن تركيزه عليها هي ثنائية المضاء والمعتم، دون أن يهمل تكثيف الصورة الشعرية التي فعّلت الحركة في النص في غياب الزمن، يقول:”قرب باب الخرافات رأيت الحقيقة تحبو معي والسماء، رأيت أصابعها تتلمس شعري، ورأيت الغيوم، رأيت أحاسيسها تتوغل في باطني ثمّ أبعد في باطن الأرض، في عمقها..”[27].
والهيكل المسطح ساكن يقف الشّاعر أمامه في لحظة معيّنة يصفه ويكون امتداد الوصف على حساب أفكار الشّاعر وتخيّلاته، وهذا يرجع إلى أنّ الهيكل المسطّح يتركّب من جزيئات مرصوصة لا من وحدة كاملة مشدودة، ولو أردنا أن نصوغ هذا الموضوع في صيغة أخرى لقلنا أن القصيدة مستوية سائبة غير مشدودة ذلك الشدّ المحكم الّذي نجده في القصائد الّتي تصف أحداثا، فتكون العاطفة في القصيدة موزّعة بالتّساوي على الأبيات. كلّ بيت، يضيف لمسة شعوريّة جديدة والإحساس لا يتكاثف في موضع دون موضع، كما أنّ القوى لا تتجمّع لترتقي في ذروة متشابكة و إنّما تحرص عناصر الموضوع مستقلّة مجزّأة كما يجري جدول في أرض منبسطة لا تعلو ولا تنخفض ولا تتخلّلها غابات كثيفة معرقلة[28].
على أنّ أبرز خاصيّة لقصائد الهيكل المسطّح أنّها مملوءة بالفجوات فمن السّهل أن نضيف إليها ما شئنا من الأبيات دون تفقدها وحدة أو نسيء إلى رابطة فيها، وهذا لأنّها في الأصل أشبه بأرض فضاء ممتدّ لا بداية لها ولا نهاية ولا تختلف جهة فيها عن جهة، أن في وسع الشاعر أن يوصلها إلى ما شاء من الأبيات، والشّرط الوحيد أنّ يشدّها شدّا وما يحدث فيها رابطة ولو شكليّة.
ولعلّ خير رابطة يلجأ إليها الشّاعر في القصيدة المسطحة (القصيدة والوصف) هي استعمال القافية الموحّدة، ذلك لأنّ القافية تصبح أشبه بسياج متين يشدّ الأبيات المفكّكة في داخله، والقافية الموحّدة عظيمة في القصيدة فهي تلمّها وتمنعها من الانفلات منعا صارما،ولعلّ هذا السّبب في أنّ أغلب الشّعر العربي كان مسطّحا، فقد كانت القافية الموحّدة من القوّة بحيث أغنت الشّاعر عن التماس هيكل معقّد يقوم التّرابط فيه على ما هو أعمق من القافية الموحّدة.وبسبب هذا التّفكك الطّبيعي في القصائد المسطّحة تحتاج القصيدة إلى خاتمة شامخة تكون هي الأخرى أشبه بسياج عال يحدّ البقعة الصّغيرة والممتدّة وينهيها. إنّ ترك القصيدة المسطّحة غير كاملة يضجر القارئ المرهف ويشعره أنّه لم يخرج بشيء وهذا لأنّه يوحي بأنّ الامتداد لا ينتهي والذّهن الإنساني لا يستريح إلى الامتداد المطلق ويفضل إذ ينتهي كلّ شيء نهاية ما.وما دامت القصيدة المسطّحة، بطبعها مستوية تتساوى فيها القيم الشّعوريّة والفكريّة للأبيات فإنّ الخاتمة ينبغي أن تكون جهوريّة مجلجلة قاطعة بحيث تبرز على سائر الأبيات وتشعرنا بالانتهاء ومعنى الجهوريّة أن يحتوي البيت الأخير على حكم قاطع أو عبارة بتّارة تصلح لاختتام القصيدة. والهيكل المسطّح (الوصفي) لا يتيح فرصا لقصيدة طويلة، ذلك أنّ الامتداد المنبسط يضايق، والأوصاف المتتالية تصبح مملّة متعبة من حيث لا تتخلّلها ذروة عاطفيّة تثير حاسّة القارئ وذلك هو السّبب في الرتابة.إنّ كلّ قصيدة جيّدة لا بدّ أن تحتوي على عنصر الحركة على صورة ما، فإن كان الارتكاز في القصيدة ساكنا امتدّ الهيكل عاطفيّا وصوريّا.ومن نماذج هذا الهيكل أيضا قصيدته: “المدثر”، و”أقطع نهر الليالي”، “تحت جدارية ابن خلدون”، و”مسيح الليل” وغيرها من القصائد.
الهيكل الهرمي:
هو الّذي يستند إلى الحركة والزّمن، والفرق الأساسي بين قصائد هذا الهيكل، وقصائد الهيكل المسطّح أنّ الشاعر هنا يمنح الأشياء بعدها الرّابع، بدل أن توصف الأشياء وهي ساكنة، ذات ثلاثة أبعاد، في لحظة واحدة من لحظاتها، كما في الصّورة، يبدو وكأنّ الشّاعر قد تجرّد من الزّمن فراح الحاضر والماضي والحاضر والمستقبل تبدو له كلّها واحدة، ومن خلالها يبدو الموصوف متحرّكا، متغيّرا مؤثّرا فيما حوله متأثّرا به، وهو عين ما يحدث في الحياة الواقعيّة، حيث نسمح للزّمن أن يمرّ على الأشياء فما من شيء إلاّ ويتحرّك ويتغيّر وتحول عليه الأحوال. ومن هذا يبدو أنّ نقطة الارتكاز في القصائد الهرميّة لا تعد أن تتضمّن “فعلا” أو “حادثة” لا مجرّد شيء جامد يحتلّ حيّزا من المكان وحسب[29]. وفي نطاق هذا الفعل يتحرّك الأشخاص والأفعال، ويسير الزّمن، فالأشخاص مثلا يتبدّلون وتتقلّب عليهم الأحداث بحيث نجدهم في أوّل القصيدة يختلفون عنهم في آخرها على وجه ما، والأشياء تتغيّر قيمتها ومدلولاتها وأماكنها والزّمن ينصرم(…) لذلك نغلب أن نجد فوارق عاطفيّة وزمنيّة بين بداية القصيدة ونهايتها، وذلك ما يميّز الهيكل الهرمي عن سواه.
وفي مثل هذه القصائد، قصائد “الفعل” و”الحادثة” الّتي تتميّز عن قصائد “الأشياء” نجد أنّ الأحداث تميل إلى أن تتكاثف في مكان من القصيدة دون مكان فهي تبدأ عادة هادئة العواطف، غير ثائرة، الأشخاص يتحرّكون بتؤدة، وكان الشّاعر يمرّ بفترة ” العرض” الّتي يمرّ بها القصّاص وهمه الأوّل أن يقدّم أطراف الموضوع لقارئه، ثمّ تأتي لحظة تندفع خلالها المشاعر والأحداث إلى قمّة شعوريّة “قمّة الهرم” فتتجمّع القوى الّتي بدأت فعلها في المرحلة السّابقة تجمعها عنيفا وتبلغ القصيدة أعلى مراتب التّوتّر ويحسب القارئ أنّه إزاء مشكل إنساني، وسرعان ما تبدأ النّهاية بعد ذلك حيث يبدأ الشاعر بفكّ المشكلة وحلّ العقدة وتشتيت القوى المتجمّعة.لابدّ لنا أنّ نلاحظ هنا أنّ خاتمة القصائد الهرميّة تمتلك قابليّة الانتهاء بسكون، وهذا أمر غير ممكن في قصائد الهياكل المسطّحة حيث ينبغي أن تكون الخاتمة جهوريّة على شيء من العلوّ، وكأنّ هذه “الجهارة” نوع من الحركة الّتي تجيء بعد السّكون الطّويل فتوحي بالانتهاء. ومن نماذج هذا الهيكل قصيدة “تذكرت البداية” يقول فيها:
“أمدّ الكون في ألفي ويائي/ وأبسطه وأحقنه دمائي/ وأشربه بلا مزج/ قراحا/ شراب الضوء يشرب دون ماء”[30].
ومن بداية القصيدة تكاثفت الأفعال لتحدث حركية غير عادية “أمدّ، أبسط، يعلق، أشرب، أدير، أستقيم، أستنير، أبذر” فمهّد أرضية القصيدة ليسير في خط تصاعدي وهمي ليصل إلى ذروتها حين يقول:
“أنا شجر الضياء، أنا المعنّى/أنا الدرّ المخبأ في الضياء/ طريق الشعر أعرفه وأدري/ طويل سلمي نحو العلاء”[31].
ثمّ يعود إلى الهيكل المسطح في آخر القصيدة حين يسترسل في الوصف، يقول:
“وسالفتي ضياء أو نهار/ تشفّ بها المراقي والمرائي/ ومبسمها المضاء بألف نجم/ وقامتها الطويلة في امتلاء”[32].
ثمّ يستدرك لحظة تذكره البداية، بداية اللقاء الأول والحب الجميل، فيعود في لفتة جميلة إلى الهيكل الهرمي، فيوظف حركية الأفعال من جديد يقول:”تذكرت البداية يوم كنا معا/ من قبل ميلاد الضياء/ أسقي ريقها للفجر ماء/ ويظمأ مرتين لغير ماء/ ويرشوني ويمنحني غيوما/ لأسعده وأمنحه شتائي”
فكانت الخاتمة في هذا الأنموذج من أجمل الصور التي استوحاها الشاعر من الطبيعة ومن أقواها على الإطلاق، إذ تميزت بطريقة مختلفة عمّا عهدناه من قصائد.ومن القصائد التي عكست حركة غير عادية قصيدة “أعطي جسدي لحرير الليل”: “أسمع مطرا(…) أرى ذهبا (…) ألمح خيلا…” إلى آخر القصيدة التي قفزت أفعالها في حركة غير عادية: “(أرسم ياء فوق الصفحة، وألوّنها بالأصداف، وأسميها بحرا، وأحيط اللام بأزهار السوسن والفل، وأعطي للواو وريقات وجذورا،وفي الدكنة حيث الموج الأزرق ورائحة الأزهار ، أعطي جسدي لحرير الليل، وأحلم)[33].
القصيدة الهرميّة غالبا ما تبدأ “بفعل” وتكثر فيها الأفعال تدريجيّا.ثمّ ينتقل الشّاعر إلى مشهد آخر ويبقى استعمال الأفعال بارزا (المضارع) متى استعمل الفعل المضارع فهو يوحي بالاستمرارية في الحركة، وفائدة هذه الاستمرارية أنّها تمدّ الزّمن وتطيله حتّى يشتّت الشّاعر الأبيات تقدّم حركة واسعة، لا في الزّمان وحسب، ولكن في المكان أيضا في عرض العالم وطوله[34]. يقول في قصيدته نشيد السلام:”أدخل كالريح تلك القرى/ أتأملها من عل، أفكر أأنا العربيّ الأخير/ على هذه الأرض؟”وكلمة (كم) توحي بتعدّد “الحدث” ممّا يقتضي زمنا أطول وأبطأ، ثمّ تأتي بعد ذلك الطّبيعة بأبعادها وجبالها ووديانها وممالكها وقاراتها وتواريخها.يقول في قصيدته “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات؟”: “كم قلت للجسد الممدّد قرب روح لم يحن أوانها (…) ورأيت أنهارا تمرّ بجانبي، ورأيت أسماكا، تخوّض في مياه طفولتي، وبدأت أقطف ثمر عمري كله نورا (…) وكم طريقا كي نمرّ إلى الحقيقة نفسها؟جسدي أنا درب الحقائق كلّها، كان الحوار مرتبا، لم نختلف إلاّ على شكل الإقامة في الدنى، هي تستطيع الآن أن تأوي إلى أعماقها كي تتذكّر التاريخ، أما أنا، فلا تاريخ في الأعماق، إلاّ قطرة في حقل جمر قائد”[35].
وقد كانت العاطفة متكافئة في الأبيات فلم تتركّز في مكان خاصّ، وإنّما تحرّكت في الزّمن في خطوات دائبة مستمرّة متشابهة في سرعتها وسعتها، وكان المقصد من كلّ بيت أن يضفي الشّاعر صورة جديدة(…)، ويبدأ الشّعور بالتّعقّد والاندفاع، نحو عاطفة يوحي بها جو القصيدة وكأنّه ينذر بعاطفة رهيبة.ولم يستعمل الشاعر هذا الفعل “أنتظر” إلاّ بصيغة المضارع في قصيدتين، فقد قال في “المدثّر”:”وأرى حولي كتبي، متناثرة كقبور تنتظر الحفّار وأصرخ..”[36]ويقول في قصيدته “لي سماء في سماء”:”أسمع الجسد النبيّ، يهزّ سيقان المدى../ ويهزّ سيقان الشجر/ وأرى البروق تهزّ أثواب الشتاء وتنتظر/ وأرى قطار العمر/ يرحل وحده نحو المدى الممتد نحو الأزل”[37].
وهذا يوحي بفترة انتظار أطول وأمرّ، وهذه هي حالة الشّاعر الّذي أضاع عمره في متابعة المشاهد المتتالية ولحظاته تمر تباعا نحو الأزل بعد أن وقّع الانتظار بالفعل المضارع الذي أرادبه إثبات الواقع، وإثبات الذات المتكلمة، “وأن يمنح الخطاب حركية، لأنّ اللغة تفجر نفسها في أفعالها”[38].
الهيكل الذّهني:هو الذّي يشتمل على حركة لا تقترن بزمن، يقدّم حركة على أسلوب فكريّ، يستغرق التحريك زمانا نجد أن الحركة لا تستغرق أيّ زمن لأنها حركة في الذهن ومن أمثلة هذا الهيكل: “أقسم جسمي على جسوم كثيرة”، يقول الشاعر:
“المستحيل أنا الذي علمته أن يستحيل وأن يريق دمائي، لتفيض في وجه الزمان سواحلي، ويمدّ في وجه الظلام ضيائي”، “أسري وأعرج لا أرى إلاّ صدى لهبي يمهّد بالرؤى صحرائي”.
وقد حرّك الشاعر القصيدة بعدة رموز ذهنية يقول:
“أبني بيوتا في الظلام وأنهرا، وأدقّ في جسد الهواء هوائي.. سيجيئ طير ربما ليقول لي صُغ من جناحي أحرفا يا رائي”.
المعجم الشّعري وأبعاده الدّلاليّة:
لا نصّ بلا معجم “فالمعجم هو أحد المكوّنات البنيويّة الأساسيّة في النّصّ به تأخذ الرّسالة شكلها وتؤدّي وظيفتها وبه تتحدّد هويّة المرسل وينكشف مستواه الثّقافي والاجتماعي ولذا تتيح الدّراسة لنا التجوّل المعجم فهما أكثر وأعمق للنّصّ الّذي يشكله. فالمرسل الّذي يحسن اختيار معجمه جدير أن ينتج رسالة تعبّر عن نفسه وتؤثّر في مخاطبه، ذلك أنّه يضفي على كلماته مسحة من ذاته، فينقلها من وسطها القاموسي الجامد إلى وسط حيوي أي أنّه يمنح لها، إلى جانب دلالتها المعجميّة، دلالات أخرى ممّا يجعل الرّسالة أكثر غنى وأبعد آفاقا وأشدّ عمقا وبخاصّة إذا كانت شعرا، إذ النّصّ الشّعري هو الفضاء الّذي تسبح فيه دلالة اللّفظ، ويضيع فيه المعنى بما يعنيه من توحّد لصالح التّعدّد والتّنوّع والغموض”[39]. وهذا هو هدف النّصّ الأدبي، وعلى هذا تصبح قيمته فيما تحدثه إشاراته من أثر في نفس الملتقى، وليس فيما تحمله الكلمات من معان مجتلبة من تجارب سابقة أو دلالات مستعارة من المعاجم.فالمعجم الشّعري هو الّذي يحدّد تمايز النّصّ ويبرز شاعريّة الشّاعر، وبالمعجم يرتسم فضاء القصيدة ويحدّد أبعادها الدّلاليّة وطاقاتها الإيحائيّة وما هذا إلاّ لتجاوز الكلمات وتحاورها مع بعضها البعض ممّا يمكّنها من اكتساب علاقات جديدة فتعدل عن بعض معانيها المعجميّة لتذوب أخيرا في حقول دلاليّة، فلا يتمّ الكشف عن معانيها إلاّ من خلال الكلمات المتّصلة بها دلاليّة.
وهذا الّذي نقصد في مبحثها، فدراسة المعجم تفتيت للنّصّ ثمّ تصنيف لوحداته من دون أن ننسى وظيفتها في سياقها الّذي كانت فيه، ففيه تتّحدّد دلالتها. على أنّنا لن ندرس جميع الكلمات المكوّنة للنّصّ بل نكتفي ببعضها وذلك أنّ المعجم المزمع دراسة لابدّ أن “يكون منتقى من كلمات يرى الدّارس أنّها مفاتيح النّصّ أو محورها الّذي يدور حولها”[40]. ويعتبر المعجم اللّغوي من أهمّ المنعرجات الّتي تميّز شاعرا دون غيره، فمنهم من اتجه وجهة الطّبيعة والآخر اتجه إلى معجم الجسد، لكنّ الملاحظ في سفر البوعزيزي أنّ الشّاعر جمع بين كلّ مفردات المعجم فلم يلغ مفردة من مفرداته سواء الطّبيعي أو الحيواني أو حتّى معجم الإنسان والرّمزي أسطوريا كان أو حقيقيّا.فمن معجم الطّبيعة ذكر الكون والضّوء والماء والسّماء والنّجم والثّمر والرّيح والشّمس والهواء، فذكر الكون بكلّ ما يضمّ في صيغ أوقعت خللا في المعجم اللّغوي الطّبيعي فلا تكاد قصيدة تخلو من هذا المعجم الّذي يجد الشّاعر نفسه أكثر راحة وأكثر حريّة واتّساعا وهو يذكر مفرداته فيقول مثلا في قصيدته “تذكّرت البداية”:
“أدير الكأس لا أدري لماذا؟/أدير الضّوء أحسبه سمائي”
إلى أن يقول: “فمن يحتاج ضوءا،ها ضيائي،/ يمدّ الكون، ها أصوات نايي”
ولا يختلف النّصّ الموالي عن سابقه في هزّات المعجم اللّغوي الطّبيعي بين الحيرة والرّغبة في تمزيق ضيق المكان الّذي يخنق الشّاعر إلى مكان أفسح وأكثر اتساعا فيقول:”قد كبرت، ولم أتمكّن من الطّيران؟ أخوّض في ماء أسطورتي، لا أفارقها… كي أمدّ العروق إلى الأرض”.
هذا النّصّ الّذي ذكر الشّاعر كلّ الألفاظ الّتي تندرج ضمن الحقل الدّلالي البيت، فذكر لفظ “البيت، الجير الأبيض، بيت الأهلين، الضّوء المتلبّس بالحيطان، السّرير، الأمّ، الأرجوحة، حبل الغسيل، مصلّى الأبّ… دون أن يهمل المعجم الطّبيعي. فذكر؛ شجيرات الزّيتون والخوخة والتّفاحات والشّمس والبدر والصّباح البهيّ، وثمرالانتظار، والنّجوم الّتي ستأتي إلى هذه الدّار والعصافير والسّقيفة”.في حين نجده في النّصّ الّذي يليه “أقسّم جسمي في جسوم كثيرة” يكتفي بلفظ الغابات في حين يذكر الرّمز الأسطوري العنقاء، ولأنّ هذا النّصّ نصّ ذهنيّ يعني يعالج فكرة ذهنيّة لم يحتج الشّاعر إلى المعجم اللّفظي الطّبيعي لأنّ فكرته تحتاج إلى بلورة وتجربة طريقة معيّنة في الطّرح لذلك أحتاج إلى الخيال والأسطورة أكثر وإن لم يهمل المعجم اللّفظي الطّبيعي.وما يلفت النّظر في خطابه الشّعري تلك اللّغة الرّاقية السّلسة الّتي تنساب انسياب النّسيم “وذلك التّزاوج والتّرابط بين عناصر النّصوص سواء المكان والتّاريخ أو اللّغة وطريقة الطّرح”[41]. والتّجربة الشّعريّة في أساسها لغة،لأن ما يميّز التعبير الفنّي هو طريقة نسج كيانه أو بناء لغته واللغة هي الظاهرة الأولى في كلّ عمل فنّي يستخدم الكلمة كأداة للتواصل، كما تعتبر المفتاح الذهبي الذي يفتح كلّ الأبواب التي من خلالها نعبُرُ إلى الفضاء البعيد، ونحلّق في آفاق شتّى، لذلك كان الشاعر على وعي كاف بوظيفة اللغة حيث أدرك أنّ الكشف عن جوانب الحياة يستلزم بالضرورة لغة تناسب كل فترة من فترات الحياة، ولكلّ قصيدة عطر مختلف عن باقي القصائد، فليس من المنطقي أن تعبّر لغة معجم معيّن و حقل دلالي مميز، عن قصيدة تحتاج لغة شعر مختلف،فلقد أيقن الشاعر أن لكل تجربة لغتها وأن التجربة الجديدة ليست إلاّ اللغة جديدة أو منهجا جديدا في التعامل مع اللغة، لذلك كان واضحا المعالم اللغوية مميز المعجم المستعمل.
ولأنّ الشّعر هو الاستخدام الفنّي للطّاقات الحسيّة والعقليّة والنّفسيّة والصّوتيّة للّغة، ولغة الشّعر هي الوجود الشّعري الّذي يتحقّق في اللّغة انفعالا وصوتا موسيقيّا وفكرا (…) فالصّورة الشّعريّة بمكوّناتها وأبعادها جانب من اللّغة الشّعريّة والصّورة الموسيقيّة بأنغامها وإيقاعاتها وأطرها التّركيبيّة التّشكيليّة جانب من اللّغة الشّعريّة ومن مجموع هذه الجوانب الثّلاث يكتمل لدينا الوجود الشّعري الّذي نطلق عليه القصيدة الشّعريّة”[42]. ومن نماذج اللّغة الشّعريّة الّتي أربكت المعجم اللّغوي قول الشّاعر في نصّه “تذكّرت البداية”:”بحرف أستقيم على محال/ بحرف استمدّ على عماء/ بي عطش لماء لا أراه/ وبي جوع قديم في دمائي”.
ويقول في نصّه “أقسم جسمي على جسوم كثيرة”:”جئت للدّنيا بضوء راعش/ لأخاف من ريح الأذى الهوجاء”.ويقول أيضا في ذات النّصّ: “ولاترعى يد الصحراء في ترحالها سفني/ لا يعطي الزّمان إلى يدي يده ولو بجفاء”.ويقول في نصّه “أعطى قلبي لحرير اللّيل”:”أتعرّف حزني نجما نجما، قمرا قمرا، وتأسرني الأضواء.. هذي تشعل منّي العين، وهذي تشعل منّي الأذن، وهذه تشعل مني الرّوح، وهذي تتلبسني عرقا عرقا، ما أقسى أحزان الضّوء، أقول لأطيار اليامون، وما أروعها (..) سأعطي قلبي للكلمات، وأصنع بيتا آخر في الكلمات، أتّذكرّها في اللّوحات، وفي السّجّاد وفي نعناع الأمّ وفي الحنّاء”.ويقول في قصيدته “فوضى على باب القيامة”:”أدير الكون لا أدري لماذا؟/ وخمري ليس يكفيني ملاذا/أودع في الشّموس البيض عمري/ وأجمعه نجوما أو رذاذا/(….)/ ماذا إذا شمسي خبت ورمت/ نجوميمن على الأفاق بردتها وماذا/وماذا إذا أوديستي اكتملت تماما/ ولم تسكن بواديها عكاضا”[43].
“إنّ الدّارس للشّعر الحديث سيلاحظ أن القصيدة الحديثة تريد أن تكون شيئا مكتفيا بذاته، كيانا يشع دلالات عديدة،نسيجا من عناصر متوتّرة، ميدانا تتصارع فيه قوى مطلقة تؤثّر عليه بالإيحاء على طبقات من النّفس لا صلة لها بالعقل، سابقة عليه أو متجاوزة له، وتمدّ أثرها على مناطق الأسرار المحيطة بالأفكار والكلمات فتسمع فيها الرّعشة والرّفيف”[44]. والتّجربة الشّعريّة وفقا لهذه التّجربة لغة، فالشّاعر ينطلق إلى العمل من وحدة عاطفيّة كما يقول هربرت، وهذه الوحدة تكتسي بما يمكن أن يسمّى الصّورة اللّغويّة الدّاخليّة، ولكي يظلّ الشّاعر مخلصا لهذه الصّورة اللّغويّة الدّاخليّة، فلا بدّ له من أن يخترع الكلمات وأن يبدع الصّور وأن يتلاعب بمعاني الألفاظ ويوسّع نظامها، وهكذا تصبح اللّغة لدى الشّاعر وسيلة للتعبير والخلق وموسيقاه وألوانه وفكره ومادّته الّتي سوّى منها كائنا ذا ملامح وسمات، كائنا ذا نبض وحركة وحياة، وبهذا يتحدّد مفهوم الخلق الأدبي، بأنّه سيطرة الأديب على اللغة بما يضفيه عليها من ذاته وروحه[45].فالكلمات لدى الشّاعر ليست مجرّد ألفاظ صوتيّة ذات دلالات صرفيّة أو نحويّة أو معجميّة وإذا كان الشّاعر لا يغفل في استخدامه الكلمات هذه للدّلالات وإنّما هي تحسم حتّى للوجود، فاللّغة الشّعريّة كيان وجسم[46]. ويقول الدكتور منير سلطان “القصيدة ليست الشّاعر فقط، وليست الغرض، وليست الألفاظ والمعاني، وليست البيئة والثّقافة والحضارة، وليست القواعد المتّفق عليها، وتلك المجتهد فيها إنّما هي عصارة هذا كلّه قطعة سكّر ذابت في كوب ماء رقراق، لا تعرف أين السّكّر وأين الماء وأين الكوب، وخلاصة هذا كلّه نسيج خيوط متشابكة أشدّ التّشابك”.
بنية الجملة:
لا شكّ أنّ في دراسة الجملة أهمّية كبيرة وفائدة عظمى “إذ بها يتمّ التّواصل والتّفاهم، وليس هناك خطاب ما دون جملة”[47]. “ولقد تعدّدت مفاهيمها بتعداد المعايير والضّوابط المتحكّمة في ذلك، كالبساطة والتّركيب (بسيطة ومركّبة) والتّركيب الدّاخلي للجملة (اسميّةوصفيّة،فعليّة حركية) والاستقلال وعدمه (أصليّة تستقلّ بذاتها، وفرعيّة تعتمد على غيرها) والتّمام النّقص (ما يذكر فيها ركن الإسناد، أو ما يحذف فيها أحدهما) والتّركيب وإعادته والدّلالة العامّة للجملة”[48].وتجدر الإشارة إلى أنّ (الجملة في المدارس اللّغويّة المعاصرة تتكوّن من بنيتين بنية دلاليّة وبنية نحويّة)، فبينما تعتمد دراسة البنية النّحويّة على كيفيّة صياغة الشّكل النّحوي الأنموذجي للجملة وعلى التّغيّرات (العدول) الطّارئة عليها من تقديم وتأخير وحذف، نجد دراسة البنية الدّلاليّة تعتمد على القضيّة الّتي تحملها الجملة وكيف استطاعت التّوفيق بين المغزى الدّلالي المراد وبين المعجم المستخدم وما هي أنواع الانحرافات الموجودة في إطارها الدّلالي كالتّشبيه والاستعارة والكناية، وتعتمد أيضا على الطّاقة الإنجازية الّتي يتطلّبها المقام، فنحن نعلم أنّ الاستفهام قد يخرج إلى معان أخرى، ونجد الأمر أحيانا مفيدا للدّعاء وهلمّ جرا[49]. غير أنّنا لا نريد من خلال هذه الومضة النّظريّة أن ندرس جملة نصر سامي من كافّة جوانبها، فالقصيدة نفسها هي الّتي تحدّد لنا طريقنا إليها، وطريقها إلينا من دون أن تفرض عليها قوالب نمطيّة جافّة وعقيمة، تمزّق الرّسالة الّتي ينطوي عليها النّصّ.
الجملة في إطار القصيدة:
تنوّعت جملة نصر سامي تنوّعا جعل من القصيدة لوحة فنّية بديعة أو قطعة موسيقيّة حالمة ولعلّ في هذا التّنوّع دلالته الخاصّة، إذ يريد الشّاعر إيصال رسالة دون أن يرهق إذن المتلقي أو يثقل عليه.ولقد تصدّرت النّصوص الجملة الإسمية ذلك “إنّ الإخبار بالاسم يقتضي بالثّبوت والاستمرار على نحوما، بينما يقتضي الإخبار بالفعل التّجدّد والحدوث آنا بعد آن”[50]. إنّ سيطرة الجملة الاسمية إن دلّت على الثّبات فإنّما تدلّ على ثبات صفات الموصوف، أمّا الجملة الفعليّة فإنّها تدلّ على تحدّد الزمن، ويقول العالم الألماني ” أبوزيمان A.Busemannالّذي أتى بفكرة مفادها “أنّ الإنسان الشّديد الانفعال يتميّز بزيادة عدد من كلمات الحدث على عدد كلمات الوصف” وقد كان لهذه الفكرة تأثير قويّ منذ ظهورها سنة 1925″[51].
ولقد عرفنا لجلّ قصائد نصر سامي وداعة العاشق الحالم الّذي يترجم انفعالاته همسا ورقة فهو كان يهمس في أذن العشق وقلب الدّنيا برغم زفراته الحارّة ونبضه المتسارع. إن سيطرة الجملة الاسمية والكلمات الوصفية على نصّ القصيدة ليس دليلا على سكونها وحنوها إلى الوداعة، بل قد تكون أمارة على انفعالية شديدة متمكّنة في نفس المرسل ملازمة له، وثابتة فيه، وقد “يخطئ خطأ كبير من أن يحصى عدد الأفعال مفترضا أنّها تقوى تأثير السّرد القصصي فالأفعال تكشف الحركات الانفجارية، وقد استعملها الشاعر كلما احتاج النصّ إلى حركية كالقصائد التي جسدت الرمز الثوري كنصه “الجميلة لا تموت”، ونصه “الخطاب الأخير لمحمد البوعزيزي” و”البراق”.
والأفعال وإن كانت دالّة على الحركيّة والفاعلية، في المقابل نجد أسماء تدلّ دلالة شديدة على الفاعليّة (صيغ المبالغة) فهذه أسماء تكاد تقفز حيويّة وتفرّ من متن القصيدة لشدّة فاعليّتها واضطرابها.يقول الشاعر في قصيدته “هكذا حدّث بروميثيوس”:
“لا يستطيع الليل غلق نوافذي/ فنوافذي/ بأصابع الشعراء/ تبني/ وتكشف في القصائد عالما/ في ضوئه/ تتلعّب الأفعال بالأسماء/ لا الأرض أرضي/ ولا السماء سمائي/ يحيى دم العنقاءفي أحشائي”[52].
أ-الجملة بين الإخبار والإنشاء:
وقد سيطرت الجملة الخبريّة على بعض النّصوص فيما لم نجد إلاّ جملا إنشائيّة قليلة جدّا تتمثّل في الاستفهام والنّداء والأمر.وإن أراد نصر سامي أن يكون نصّه شهادة على كلّ ما يكنّه القلب من حنين وشوق، ووثيقة حبّ ورسالة نتعلّم من خلالها الإحساس بالآخر وتقديس نبضه.ومن النصوص التي كانت أغلب جملها خبرية؛ “البيت”، “لدينا حلم”، “المدثر”، “هكذا حدّث بروميثيوس”، وغيرها من النصوص.
ب-الجملة بين النّفي والإثبات:
ويمكن من البداية أن نحكم على القصيدة بأنّها وثيقة أو خبر ينقل، ذلك أنّ الجملة المثبتة سيطرت على النّص سيطرة لم تكن تترك للنّفي مجالا إلاّ قليلا.وقد ورد النّفي في عدّة مواقع (…) وهذه التّراكيب وإن كانت منفيّة إلاّ أنّها تثبت الصّفة وتثبت الحالة الّتي كان يعكسها صدق الشّاعر فهي جمل ظاهرها النّفي وباطنها الإثبات.
ج-الجملة بين القصر والطّول:
تنوّعت الجمل بين قصر وطول، لكنّه يجنح للقصر في مواقع حين يذكر صفة[53]. وإن جنحت للطّول وذلك إذا كانت في سياق ذكر الحزن…. ليجر دمعا…. وإن كانت قصر فنعرف إحساسه سريعا.
د-الجملة والامتداد الزّمني:
تنوّعت الأفعال الواردة في القصيدة من حيث أزمانها وقد امتدّت من الماضي إلى المضارع لكنّها رسمت المستقبل في أحلى صوره.هذا التّقسيم يظلّ تقسيما نسبيّا ذلك أنّ بعض الأفعال تغيّرت أزمنتها بسب دخول بعض العوامل النّحويّة الّتي تفيد القلب.وقد لاحظ أصحاب نظريّة الخطاب وجود الصّيغة الدّالّة على الزّمن الحاضر في سياق الحكاية الّتي يكون زمنها دائما الزّمن الماضي، وذهبوا إلى أنّ استعمال الزّمن المضارع في حكاية أحداث انتهى زمانها حين نقصّ حكاية فيلم شاهدناه أو رواية قرأناها يوحى بأنّ الأحداث الّتي كانت تحكىصالحة لأن ترى أو تشاهد مرّة أخرى[54].
بهذا نجح نصر سامي أن يجعل نصوصه وثيقة تاريخيّة تعبرُ عن الماضي وتمتدّ إلى الحاضر لتكرّر وتفرض وجودها فيها، ويمكن القول أنّ الجملة عنده تمتدّ امتدادا تراجعيّا…. فعوض أن تنقل من الماضي إلى الحاضر فإلى المستقبل، عكست الاتجاه فتراجعت واستدبرت المستقبل وجعلت الماضي قبلها، فتغيّر مجرى الزّمن عندها (مستقبلها ماض) يؤكّد حالة الحنين والحزن واليأس الّتي تلمّ بالشّاعر.
خاتمة:
بعد هذه الجولة الحالمة والمتعبة في الآن ذاته في سفر البوعزيزي للشاعر نصر سامي، لا أدّعي أنّي أشبعت نهمي أو شفيت غليلي من قصيدة كلّما التفت إليها أرتشف من ثناياها قبسا من نور ونار تحرق أحشاء الحروف، ولولا أنّي كبحت جماح القلم لأطّرحت أمورا، وأضفت أخرى، لكن لامناص من وضع نقطة النّهاية،لأجمل بعض الشّيء ما استطعت أن أخلص إليه من نتائج دراستي المتواضعة والّتي تبقى قراءة تحكمها ظروف معيّنة فقد تتّفق وقد تختلف مع قراءات أخرى، ومن جملة ما توصلت إليه:
-تميزت بنية النصوص عند نصر سامي بالطول والتكثيف اللغوي ويرجع ذلك إلى سعة إطّلاع الشاعر وخبرته اللغوية التي عكست سلاسة وقوة سبك.
-تميزت المواضيع التي عالجها باختيار المادة واتزان الطرح فاستطاع أن يحوّر اللغة بما يخدم فكرته وأن يوصلها برغم كثرة الرمز الذي ميّز أسوبه.
-اختلفت الهياكل الأسلوبية من قصيدة إلى أخرى بالرغم من أنّ بعض القصائد يمكننا أن نجمعها تحت حقل دلالي واحد.
-أمّا التفاصيل التي ملأ الشاعر بها فجوات النصوص فقد كان أشبه بساحر في تدبيج المعجم اللغوي والتلاعب بألفاظه بما يخدم نصه فتميزت نصوصه تماسكا وصلابة وكفاءة تعكس ترويض الشاعر للغته.
-أمّا اللغة فقد كانت العنصر الأساسي الذي استعمله الشاعر ليحدث زلزالا قاريا في المعجم من خلال تشبيهاته واستعاراته وما أكثرها.
وفي الأخير لا يسعني إلاّ أن أقول إنّ الأدب سيبقىجبلا شامخا تحاول الدّراسة تسلّقه فقد تبلغ أعطافه لكنّها تعجز أن تعتلي قمّته.