لا أذكر أني اهتممت يوماً بتفاصيل حياة الشاعر الراحل محمود درويش الأسرية أو مغامراته العاطفية، ولا أعرف إن كان للشاعر الراحل ابنة شرعية أو غير شرعية أم لا، ولا يعنيني ذلك كثيراً، فبالنسبة لي أبناء الشعراء والكتاب والأدباء والفنانين على مختلف مجالات إبداعهم هو نتاجهم الذي يقدمونه لنا في حياتهم ويتركونه لنا بعد رحيلهم، ولكني حين سمعت أصوات اللطم عرفت أن في حينا جنازة، فـ”مشيت خلف النعش مثل الآخرين مطأطئ الرأس”.
لقد قرأت مثل كثيرين، ما كُتب خلال الأيام القليلة الماضية عن قضية أُثيرت مؤخراً في وسائل الإعلام حول علاقة جمعت الشاعر الراحل بامرأة متزوجة، أسفرت عن ابنة لم تحظَ بحمل اسم والدها الشاعر الكبير، وظلَّت سراً حمله درويش معه إلى قبره، وربما لم تتسلل حتى إلى قصائده، إلى أن أفشاه صديقه الشاعر السوري سليم بركات الذي زعم أن درويش قد أسرَّ له بذلك في سهرة جمعتهما في التسعينات، وحمله في صدره طيلة تلك السنين إلى أن كشف عنه قبل أيام في مقال معسول دُس فيه الزرنيخ، وقد نُشر في صحيفة القدس العربي تحت عنوان: “محمود درويش وأنا” ليشغل جمهور الشاعر الراحل والأوساط الثقافية والأدبية التي انقسمت حيال هذه القضية بين مصدق ومكذب ومتصدٍ وغير آبه.
رغم أنني لا استمتع بسماع شعر أكثر من استمتاعي بسماع شعر درويش، إلا أنني لم أجد نفسي معنياً بالأمر كثيراً، لجهة صدقه أو زيفه، لأنني أظن أن هناك قضايا جدلية في حياة الشاعر الراحل أهم بكثير من قضية علاقته بامرأة متزوجة، يُزعم أنها أسفرت عن ابنة غير شرعية، لكن ما أود قوله، إن كان لدرويش مغامراته سواء مع نساء متزوجات أو غير متزوجات فهو كسائر البشر، وكونه شاعراً استثنائياً له مكانته لن يُغير في الأمر كثيراً على العكس تماماً فهذا يجعله محط اهتمام كثيرات، وإن كانت له ابنة أخفاها عن الجميع إلا عن صديقه فله أسبابه حتماً، وهو في نهاية المطاف ليس نبياً معصوماً، وما فعله ليس بالأمر الذي لا يفعله كثيرون غيره في زمنه وزمننا هذا، كل ما في الأمر أنَّ أسرارهم لم تُكشف بعد، وربما كانوا أكثر حرصاً منه على استخدام وسائل منع الحمل في علاقاتهم، وأشد كتماً لأسرارهم حتى عن أقرب المُقربين، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، لو كانت علاقات وسائل التواصل الاجتماعي تحبّل لاستيقظنا في كل يوم على قضية جديدة لأحد من النخب الثقافية والأدبية، ولاكتشفنا وجود عشرات الأبناء غير الشرعيين من نساء متزوجات وغير متزوجات من النخب والعوام على حد سواء، فمصيدة المُلهمة منصوبة دائماً في القصيدة.. في اللوحة.. في المقالة.. في الموسيقى.. في الأغنية، وحتى في بوستات الفيسبوك واللايكات والتعليقات بانتظار الطرائد، وكُثر هي اللوحات والقصائد والروايات والقصائد التي كُتبت ورُسمت بأيادٍ رجال وذُيلت بأسماء نساء، وما زالت.
كتاجر مُفلس فتح سليم بركات دفاتره القديمة، وقد كثرت التكهنات والتحليلات حول السبب الذي دفعه لكشف سر صديقه الحميم بعد سنوات من رحيله في مقال أشبه بقنبلة صوتية أحدثت جلبة في مجتمع يحب “الهياهي”، وبغض النظر عنها جميعها، كان بركات كمن يُطلق رصاصة الرحمة على نفسه، لكني لا أظن أن ما فعله يختلف كثيراً عما يفعله غيره من البشر، سواء أكان هؤلاء من النخبة أو العوام، فبيع الأصدقاء وإفشاء أسرارهم في زمن بيع الأوطان لا يعد مشكلة بالنسبة للمثقفين الذين يجيدون تبرير كل شيء، كما أن الغيرة في الأوساط الثقافية والأدبية لا تقل عن الغيرة التي تولد الضغينة بين حويصة الكراجات، ولو راجع كل شخص نفسه وأحصى كم صديقاً خذل، وكم صديقاً خذله، وكم سراً لصديق أفشاه، وكم سراً له أفشاه صديق في جلسات “النميمة” التي تشتهر بها مجتمعاتنا وأوساطها النخبوية والشعبوية على حد سواء لوجد أنه يفعل، ويُفعل به، ما فعله بركات بدرويش بشكل دائم، وإن اختلف حجم القضية، وهذا ليس تبريراً لما فعله، إنما هو تذكير لمن يتناسى أن هذا الوسط الموبوء فيه الكثير من القضايا الإشكالية التي لم تتكشف تفاصيلها بعد، لذا لم يكن بركات أول الخاذلين لأصدقائهم، ولن يكون الأخير، وما فعله هو الأمر الطبيعي والمتوقع منه ومن غيره، وليست مشكلته إن ظنَّ الآخرون أنه استثناء، وقبل إطلاق النار عليه علينا مراجعة أنفسنا، ومراجعة كل ما حولنا، حينها فقط سنكتشف أن داخل كل منَّا وحوله أكثر من سليم بركات لكنهم لم يظهروا بعد، فأعداء اليوم هم أصدقاء الأمس، والعكس صحيح.